تسع وثلاثون عاما تمر اليوم... أجيال كاملة، ربما أغلبية المعاصرين لم يشاهدوا، ولم يسمعوا، ولم ينكسروا، ولم يتبعثروا!! وأجيال أخرى سابقة سمعت وشاهدت وانكسرت وتبعثرت!!
شعبنا قديم ضارب بجذوره في أعماق التاريخ، ولكن يبدو أنه قلما يصادف التوفيق فيمن يتولى إدارة أموره ما بين فاسد أو ضعيف، أو محتل غاصب، والحاصل أنه يستنزف في خيراته وطاقاته، فيهرب من يهرب، ومن يبقى أصابه الطاعون أو الوهن، ومحطة يونيو كانت فارقة وصادمة ومزلزلة، وأغلبنا عنها غافلون، لا تعرف أجيالنا ما الذي ضاع وانكسر، وكيف؟! ولا يبدو أحد معنيا بأن يعرف، فما راح من الأيام قد ذهب لشأنها ونحن في مصاعب اليوم بيومه، رغم أن الذاكرة هي مستودع الخبرات، وضمان عدم تكرار الأخطاء، ووقود أساسي لأي محاولة تغيير للأوضاع، أو صياغة مستقبل أفضل.
أول أمس كنت في ندوة نقاشية محدودة طرح عليها باحث فكرة استعادة مكة كمركز روحي وثقافي لكتل من البشر يمكن أن ترى فيها- استنادا إلى تراث وأساطير ونقول- مكانا مقدسا ومباركا يتجاوز كونه مجرد كعبة المسلمين، واجتهد الباحث في حشد الأفكار والأسانيد لفكرته، وناقشه الحاضرون ما بين مؤيد ومعارض وناقد، وقلت أنا أن الحد الأدنى من الصلة بين أغلبنا وتاريخنا ولغتنا وعالمنا المعاصر غائب تماما، لدينا مشكلة جهل مطبق بالتاريخ، وضعف واضح في علاقتنا باللغة العربية، ولدينا مشاكل كثيرة ومعقدة في رؤيتنا للعالم وتعاملنا معه!! وكل واحد من هذه الثلاثة مسألة حياة أو موت.
هذه التشوهات التي خلقها تعليم منحط في مستواه وأدواته، وإعلام متخلف في برامجه وأطروحاته، وتربية متهافتة للنفس والعقل والدين!! هناك بصيصي أمل فقط حين نتخلص من هذه الأغلال والسموم، هناك أمل إذا استعدنا صلة حية باللغة والعالم والتاريخ!! هناك أمل إذا جلسنا لنراجع ونتأمل في ذالك الكابوس، وتلك القارعة، وهما حصاد ما قبلهما، هناك أمل إذا تذكرنا الخامس من يونيو بشكل مختلف، لا إيلاما للذات، ولا تجريحا للأشخاص، ولكن دروس وعبر، وإدراك من أين جاء الخلل لنكتشف أننا مازلنا على نفس المسارات التي أوصلتنا إلى هزيمة يونيو، ولنكتشف أننا كنا ومازلنا بصدد اختيار واضح بين أن نكون أو لا نكون، بين أن نتغير بحق وعمق، أو نبقى على ما نحن عليه فنعيش الهزائم الصغرى والكبرى تباعا.
لو أن كل واحد منا يتحول إلى مركز إشعاع وبث بدعوة ودعاية ضد التخلف والقهر، والانغلاق الفكري ضد القصور والإهمال، وقلة المعرفة، وعدم الاكتراث، وسوء الأخلاق في المهنة والمعاملات. لو تسلح كل واحد فينا بإيمان ومبدأ، وعزيمة ودأب، وحكمة ونشاط لا ينقطع، يصل الليل بالنهار معلما ومتعلما، ومعالجا بما عرف، وناشرا للنور والثقافة، والتفكير والحوار، نستطيع أن نغير مسار التاريخ إذا صدق منا العزم، واحتشد الجهد.
اقرأ أيضا:
على باب الله: إفتكاسات:29/ 5/2006/ على باب الله التعبير والتفكير