ذكرياتي في حارة الكنيسة(1)
وقد اشتهر الأقباط في ذلك الوقت في بلدتنا بشيئين: تربية النحل وبيع المصوغات, وكانت لهم طقوسا نسعد بها معهم فحين يأتي موسم جمع العسل يوزعون على جيرانهم من المسلمين أطباقا من العسل, وكانوا يختصوننا بزيادة في كمية العسل مع أقراص من الشمع المشبعة بالعسل نظرا لعلاقتنا الخاصة بهم. أما فقراء النصارى فكانوا يوزعون ما يسمى ب"ماء العسل" وهو سائل يتم طبخه فيصبح مثل المهلبية وله طعم قريب من العسل ولكنه مخفف. أما الصاغة منهم فكانوا يتميزون بصدق الحديث والأمانة في التعامل وطول البال والصبر خاصة مع مساومات النساء وترددهن في اختيار الحلي الذهبية.
أما جيراننا المواجهين لنا فكانوا بيت عم "إبراهيم سمعان" وأذكر زوجته الطيبة السيدة "أم موريس" وابنه الكريم الأستاذ موريس (وله معي قصة سأرويها بعد قليل) وابنيه الآخرين محفوظ وسعد, وابنته صوره. وبيت عم إبراهيم سمعان كان يحتوي بلكونه كبيره من الخشب وكان أبناؤه مغرمون بوضع قصاري نباتات الزينة في هذه البلكونة الخشبية المطلة على الشارع المؤدي للسوق, وكأني الآن أرى قطرات الماء تتساقط من هذه القصاري بعد سقيا الزرع فيها.
وفي أحد الأيام كنت ألعب فوق سطح بيتنا فلدغتني نحلة وتورم مكانها بشكل واضح آلمني كثيرا, وهنا غضب أبي لأن عم "إبراهيم سمعان" كان يربي مجموعة من النحل فوق سطح منزله المجاور لنا, وحين علم عم "إبراهيم" بهذا الأمر ما كان منه إلا أن طيّب خاطر والدي ومسح على يدي المتورمة وأرسلت السيدة الفاضلة أم موريس إلينا طبقا من عسل النحل وقاموا بنقل خلايا النحل بعيدا عن البيت.
وحين بلغت السادسة من عمري اصطحبني والدي إلى مدرسة الرفاعي الابتدائية وكان معه حينئذ صديقه عم "عبده بانوب" جاء ومعه ابنه"مجدي", وجلست أنا ومجدي متجاورين, وكأن مجدي استوحش جو المدرسة فكان –كعادة كثير من الأطفال في هذا السن- يبكي كثيرا في الأيام الأولى ويضع وجهه الباكي على ساعديه فتسيل دموعه على الصليب المدقوق على يده, وكنت أنظر إليه مشفقا عليه وعلى الصليب الذي تكاد الدموع أن تمسحه وأحاول أن أخفف عنه شعوره بالوحشة, وفي آخر اليوم الدراسي نعود إلى بيوتنا القريبة من بعضها, وكنت كلما قابلته – بعد أن كبرنا - ذكرته بهذه الأيام مداعبا ومشاغبا.
وحين وصلت إلى الصف السادس الابتدائي دعاني الأستاذ موريس ابن عم "إبراهيم سمعان" جارنا لإعطائي درس تقوية حيث أن الشهادة الابتدائية تحتاج إلى استعداد خاص, ولم أكن متحمسا لأخذ درس خصوصي حيث كنا نعتبره في ذلك الوقت عيبا ولا يصلح إلا للتلاميذ البلداء, ولكن الأستاذ موريس أصر على ذلك وشجعني وأقنعني, وأهم من ذلك طمأنني بأنه سيقوم بذلك بلا مقابل (رغم أنه لم يكن ممن يعطون دروسا خصوصية), وفعلا ذهبت وأخذت الدرس عنده وظهرت النتيجة وكنت الأول على المدرسة في الشهادة الابتدائية وشكرته وما زلت أعتز بأستاذيته لي حتى الآن وأدعو له بالصحة وطول العمر.
ولست أنسى عم "جرجس" المبيض (النقاش بلغة الوقت الحاضر) والذي كان مجيئه بسلمه وجردله إلى بيتنا إيذانا بإضافة مسحة جمال إلى البيت بما يضعه من ألوان زاهية(جير أو بلاستيك أو زيت..), وكنت أستمتع برائحة البياض الجديدة, وأقف بجوار عم"جرجس" طول الوقت أرقبه وهو يعمل, وأستمتع بمداعبات أبي له عن الجنة والنار, ورده الضاحك المتسامح على تلك المداعبات.
وفي أحد الأيام حدثت مشادّة بين عم "حليم" وأخيه "جبران", وكان عم "حليم" يشعر دائما بأن أخيه يستضعفه أو يستهين به فكان كلما حدثت مشكلة بينهما استغاث بأبي ليسانده في مواجهة أخيه, ولم يكن أبي يتخلف عن هذا الواجب, وكان وجوده دائما سببا في ضبط العلاقة بينهما.
أما عم إيليا فكان فنانا في إصلاح الراديوهات الترانزستور (وهي أعلى تكنولوجيا في ذلك الوقت) فكان أبي لا يأمن أحدا على إصلاح الراديو إلا عم"إيليا", وتطوف بالذاكرة صورة عم "سعد بشاره" والذي كان يعرف الكثير من الأشياء ومنها اللغة القبطية, وكان أبي (وكذلك أنا) معجبا بنصاحته وفصاحته.
وفي أحد الأيام أحضر شخص ما شريطا مسجلا لقسيس أعلن إسلامه, وكان في هذا الشريط هجوما شديدا على الإخوة المسيحيين, وتصادف وجود الخواجه"عزت" (وكان صديقا قديما لأبي) في هذا المجلس, ويبدو أن ما كان في الشريط جرح مشاعره ومن يومها لم أجده بعد ذلك في هذا المجلس الذي اعتاد الجلوس فيه لسنوات طويلة, وتذكرت أثر هذا الشريط حين وقعت أحداث الإسكندرية بسبب ال CD.
وحضر إلى ذهني صورة زميلي في كلية الطب رزق عوض الله والذي كان مستواه العلمي رائعا وكان ترتيبه الثالث على الدفعة, وكان في الحقيقة يستحق الترتيب الأول, ولكنني أعتقد أنه عانى من مشكلات مع بعض الأساتذة ورؤساء الأقسام الذين عمل معهم (لست أدري إن كان ذلك بسبب ديانته أو لأسباب أخرى), ولست أدري إن كان ما يزال في مصر أم هجرها بسبب تعصب بعض الأساتذة, وكانت حجة هؤلاء الأساتذة – كما سمعت في حينه – أن رؤساء الأقسام المسيحيين يسخرون أقسامهم بشكل خاص لخدمة المسيحيين (وهذا ربما يجعلنا نفكر بجدية في صدور قانون لمنع التمييز العنصري في مصر ليغلق الباب أمام ضعاف النفوس من الجانبين وليضمن تحقيق العدل بين الجميع فلا يستبعد أحد من وظيفة أو ترقيه بسبب دينه أو انتمائه السياسي).
ولاحظت بعد فترة ذهاب بعض المرضى يستشفون عند بعض القساوسة (كما يذهبون للمشايخ), وقد أثار هذا حفيظة بعض المسلمين, وتبع ذلك انتشار شائعة أن شخصا مسيحيا يدعى "م" يقوم بعمل سحر يجعل الجن المسيحي يركب المريض المسلم, وهذا السحر لا يفكه إلا قسيس لأنه لا يستجيب إلا له, وقد تطوع بعض المشايخ من المسلمين بمحاولة إخراج الجن غير المسلم من جسد المسلم وكأنهم يقومون بحرب مقدسة وقد سجلوا أشرطة تصور معركة إخراج الجني غير المسلم, والغريب أنني وجدت أناسا متعلمين يصدقون هذا الأمر ويتصرفون بناءا عليه, ويكنون عداوة لهذا الشخص الذي يعتقدون أنه يحارب المسلمين بالجن المسيحي, خاصة وأن لدى قطاع غير قليل من المسلمين إحساسا بأن أمريكا تساعد المسيحيين في مصر, وأن الآخرين يستقوون على المسلمين بأمريكا, وهكذا تزداد الأمور تعقيدا بدءا بالمعتقدات الخرافية وانتهاء بالقناعات أو الملاحظات السياسية والتي ربما يقويها سلوك وتصريحات أقباط المهجر الذين هاجروا من مصر وهم يحملون مشاعر سلبية تجاهها بحق أو بغير حق (نفس المشاعر التي يحملها المسلمون الذين اضطرتهم الظروف السياسية أو الاقتصادية الطاردة والضاغطة إلى الهجرة والعيش في بلاد الغربة).
وقفزت الذكريات سريعا وانتقلت إلى وقت قريب نسبيا حيث بيتي الذي عشت فيه عدة سنوات في أطراف مدينة طلخا وكنت أبني فيه مسجدا وكان جاري المسيحي "المعلم عوض" (أو أبو فادي كما نناديه) يشاركني بالمشورة والرأي في كل الخطوات سواء في بناء البيت أو المسجد, وكان حارسا أمينا على البيت وعلى المسجد, والناس من حولنا يستغربون من دخوله المسجد وتقديم مشورته واقتراحاته في تعديل الكثير من الأشياء, وكان بعض الشباب المتشدد يستنكرون ذلك ويلومونني عليه, خاصة حين يرون تلك العلاقة الخاصة التي تربط أسرتي بأسرته وتلك الهدايا المتبادلة في الأعياد والمناسبات, وأذكر أنني كنت كثير السفر, والبيت -كما قلت- في منطقة جديدة في أطراف المدينة, وكان وجود "أبو فادي" بالقرب من بيتي من عوامل اطمئناني خاصة أنه كان صاحي العينين لكل شيء في الشارع الذي نسكنه وكان حريصا على أمن المكان بمن فيه من مسلمين ومسيحيين, وزوجته السيدة أم فادي تستقبل الجميع بالتحية والترحاب, وكنت أسعد بتناول كوب الشاي مع البسكويت الذي برعت في إعداده وذلك في وقت العصاري أيام الأجازات أو في الأعياد.
كل هذه الأحداث والذكريات مرت بذهني في هذه الرحلة القصيرة, وربما ساعدني على تذكرها والاسترسال فيها بهذا الشكل ما أراه وأسمعه كل يوم من أحداث طائفية مؤسفة ومحزنة وغبية في الإسكندرية والصعيد وغيرها تكاد تحرق هذا الوطن, وكل ما يتم من إجراءات يزيد الأمر تعقيدا, وأصبحت الأحداث تتسارع يدير دفتها المتشددون على الجانبين في حين يقف العقلاء والمعتدلون والمحبون صامتون مكتوفو الأيدي ومعقودو الألسنة بلا مبرر, ومما يزيد الأمر خطورة ذلك الحقد القادم من الخارج يريد أن يشعل النار بين أبناء الوطن مثيرا نعرات طائفية وأفكارا عنصرية لم نكن نعرفها في ذلك الزمن الذي وصفت بعض لقطاته.
وبالتأكيد من يفعلون ذلك لم يقرأوا قول الله تعالى:"لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم" (والبر كلمة جامعة لكل معاني الخير, والقسط هو العدل), ولم يقرأوا قوله تعالى:".. ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون", ولم يقرأو قول الرسول محمد صلى الله عليه وسلم:"إذا دخلتم مصر فاستوصوا بأهلها خيرا فإن لكم فيها رحما وصهرا", ولم يقرأو قول السيد المسيح عيسى عليه وعلى نبينا السلام في موعظة الجبل:" أحبوا أعداءكم, وباركوا لاعنيكم, وأحسنوا معاملة الذين يبغضونكم, وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويضطهدونكم, فتكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات, فإنه يشرق بشمسه على الأشرار والصالحين, ويمطر على الأبرار وغير الأبرار, فإن أحببتم الذين يحبونكم فأية مكافأة لكم؟ أما يفعل ذلك حتى جباة الضرائب؟, وإن رحّبتم بإخوانكم فقط فأي شيء فائق للعادة تفعلون؟ أما يفعل ذلك حتى الوثنيون؟, فكونوا أنتم كاملين, كما أن أباكم السماوي هو كامل".
اقرأ أيضا:
سهرة مع سكان القبور (1) / ذكرياتي في حارة الكنيسة(1)