الحزن قد يملأنا كمدا كما قد يملؤنا قوة، وقد يملؤنا إحساسا بالآخرين، كما قد يملؤنا قسوة وسخرية، وقد تتداخل هذه المشاعر فلا نميزها صلاحا أو فسادا. كيف نعي أن نستثمر الحزن حرية، وانعتاقا من ربقة الضعف، أو العجز، أو الجفاء؟ كيف نتعلم السقيا من نبع الحزن حكمة، وطهارة قلب، ونقاوة روح؟
لعل الطريق إلى ذلك هو أن نظل نحب الحياة مهما ضنت علينا بأسباب السعادة الظاهرة، فنهر السعادة الباطن رافده الرضا والثقة بعدل الله عز وجل، هذا العدل الذي سيتحقق حتما في إحدى الحياتين، الأولى أو الآخرة، ومهما عظمت مرارة تأخر العدل فإن من مقتضيات كونه عدلا أن يمحو تلك المرارة، ويبدلها بما تطيب به نفس صاحبها، أليس (يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب)؟
من عمق الحزن إذن قد تنبثق لذوي البصائر أنوار تشرق بها ظواهرهم ودواخلهم، وتتضاءل أمام الأنس بعدل الله المطلق، ورحمته، ومعيته، نسبية الفقد والألم والحزن وضنين القدر..
الحزن يعلمنا رفقة الذات، والدين يريد منا أن نصاحب ذواتنا أولا، نتعرف عليها، نتفهم ونراعي احتياجاتها، ونحتضن ألمها وأملها، ونحن حين نتوجه إلى ربنا بقلوبنا حقا، فإننا بذلك نحقق أعلى قيمة للتواصل الصادق القوي الرحيم مع الذات، الذي لا يعلق أملا إلا بخالقها، فلا يكلها إلى احتمالات ضعفها، أو ضعف من سواها من البشر..
حرية هو الحزن إن أدركنا سره، وإن التقطنا درر عزته وانكساراته، إلفا أعمق وأوثق مع الذات، واتصالا أصفى مع الخالق، وإقبالا جديدا على الحياة، بفهم بقدر ما يشوبه من الشجن بقدر ما يكلله الرضا والأمل في حياة أضوأ بنور الرحمة الإلهية، وأكثر فاعلية عطاء وثراء.
صلاح جاهين في إحدى رباعياته تحدث عن الحزن كحبل يطوق صاحبه كمدا فقال: حاسب من الأحزان وحاسبلها / حاسب على رقابيك من حبلها / راح تنتهي ولا بد راح تنتهي/ مش انتهت أحزان من قبلها؟ عجبي!
لكن الحزن ليس دوما كذلك، هو حرية إن أردنا ذلك، وقيد ثقيل إن أردنا ذلك أيضا، الاحتفاظ بوعينا لسنن الحياة إيمانا يعيننا على الإرادة الحرة، هذا الوعي هو الذي ألمح إليه الكاتب الكبير فهمي هويدي لما سئل: متى تفرح، فأجاب بعد تفكير يسير: الأهم من الفرح هو الرضا، لأن الفرح لحظة، والرضا عمر.
ذكرني كلام الأستاذ هويدي بالآية الكريمة: "لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم" والنهي هنا ليس عن الحزن أو الفرح كإحساس جبلي، لكن عن ما خرج منهما عن حد الاعتدال، لأن ما كان كذلك لم تدم حلاوته، ولم يحسن المرء التغلب على مرارته.
الرضا عمر، لأنه يمثل حالة السمو الإنساني عقلا وقلبا، تطمئن به النفس، وتهدأ، فلا يستفزها ألم ولا بهجة، فالحكمة تعلم المرء أن يستقبل الفرح كما الحزن بسكينة، تعطي لكلٍّ منهما حقه بذات الوقار الداخلي المتأمل.
حرر في:
16/ 3/1427هـ / 14/4/2006م
واقرأ أيضاً:
إنهم يريدون الرفقة لا الرفيق ! / السنة والشيعة ومفهوم الأمة الواحدة