ساخن من لبنان: المفجوعون بكرامتهم
وعدت أستاذي الدكتور وائل أبو هندي بإرسال مدونة يومياً تحت عنوان ساخن من لبنان.. ووعدته أن تصله أول مدونة ليلة الجمعة، تزاحمت الأفكار في رأسي ولكنها أبت أن تولد على الورق.. وليلة السبت أغمضت عينيّ وأنا أقول لكل المقاومين: تصبحون على انتصار، وصباح الأحد فتحت التلفاز فكانت كاميرات وسائل الإعلام المحلية والعالمية مركزة على قانا حيث ارتكبت إسرائيل مجزرة جديدة، وكما كل مرة، وجبة الذئب الصهيوني المفضلة هي النساء والأطفال..
الأرقام عندكم.. المشاهد رأيتموها.. صيحات الاستنكار صمّت آذانكم كما صمّت أذنيّ. ودموع التماسيح التي ذرفها المجتمع الدولي لابد وأنها أصابتكم بالغثيان كما فعلت بي.. ولذلك سأبتعد عما نقله الإعلام لأنقل لكم صورة أخرى.. ولأقول لكم أن الحقيقة أوسع من أن تسعها عدسات كاميراتهم..
لماذا أتهم الإعلام؟ لأنه من تداعيات الانكسار العربي والإسلامي أن حوّلتنا وسائل الإعلام إلى أمة جنائزية، أمة نائحات وبواكي، تعيش في فجيعة دائمة، ولا حول لها ولا قوة إلا إحصاء ضحاياها وندبهم.. وحتى حين لا تكون ضمن الضحايا فأنت ضحية رغماً عنك، إذ تقع في شرك التعوّد على مشاهد القتل، فتتبلد مشاعرك، ولا تثير فيك هذه المشاهد سوى المزيد من الشعور بالانكسار، ولا تحرك فيك أكثر من حالة انشداد عصبي لا تزيد عن حالة الانشداد العصبي التي تعيشها وأنت تشاهد فيلماً من صناعة هوليوود سرعان ما تنتهي بمجرد مرور المشاهد!
سأحكي قصة مختلفة تماماً.. نحن لسنا أمة نائحات وبواكي.. نحن لا نحصي ضحايانا ونتكور على أحزاننا ونتلاشى.. إياكم أن تصدقوا أن جل اهتمام اللبنانيين أصبح في هذه اللحظة تسول المساعدات الإنسانية من دول العالم.. إياكم أن تصدقوا ذلك.. الفجيعة ليست هنا.. الفجيعة لم تمر من صوبنا، ولم تستقر في أرضنا، ولم تعبرها حتى.. لا تصدقوا أن أهالي الضحايا مفجوعون..
حين تكون مقاوماً في جنوب لبنان تقف في وجه أعتى قوة عسكرية في المنطقة وتحول دون تقدمها بضعة كيلومترات في أرضك.. وتعيد قوات النخبة فيها مذءومة مدحورة.. فأنت لست من أمة النائحات والبواكي..
حين تثبت في أرض المعركة وأنت لا تدري إن كان أهلك ما زالوا على قيد الحياة أم تحولوا إلى أشلاء تحت الأنقاض.. فأنت لست من أهل الفجيعة.. ولست من أمة الجنائز..
أن يدمّر بيتك فتهدي حجارة أنقاضه للمقاومة لتبني به جسر الكرامة والانتصار.. فحينها لا تكون ضحية.. ولا تحتاج إلى من يبكي عليك..
أن تقوم من تحت الأنقاض لتصرخ في سيارة الإسعاف أمام عدسات الكاميرا: الله أكبر.. ألا إن حزب الله هم الغالبون.. فأنت لست ضحية، ونحن لسنا مفجوعين فيك.. وحين تقف امرأة استشهد ابنها لتقول: مازال عندي ثلاثة أهديهم للسيد حسن والمقاومة، فهذه ليست ثكلى والعزاء ليس في دارها..
أن تخرج امرأة بسيطة من قلب الحي الذي حدثت فيه مجزرة قانا الثانية لتقول لوسائل الإعلام.. لقد فعلوا بنا ذلك لأن المقاومة منتصرة والسيد حسن "رافع راسنا" فهذه ليس ضحية، وما قالته لا يشبه الندب..
أن تفضل أن تستشهد في قريتك على أن تنزح إلى صيدا أو بيروت لأن كرامتك تأبى عليك أن تتسول الحصص الغذائية من هيئات الإغاثة، فحينها لا تكون ضحية، ولا يكون استشهادك فجيعة ولا مكان للنائحات في جنازتك..
في لبنان حكاية أخرى.. حكاية عشق عتيقة بين الأرض والمقاومة والشعب.. شعرت الأرض بالعطش فهب المقاومون ليسقوها من دمائهم الطاهرة الزكية.. اشتاقت الأرض إلى أبنائها.. فاحتضنتهم واحتضنت أشلائهم بكل الحنان فناموا بين جنباتها قريري العيون.. لا تخاف الأمهات هنا من لوعة الفراق.. لأن أم الشهيد تعلم أنها مع تباشير الربيع المقبل سوف تشم رائحة ولدها عابقة من زهر الليمون الذي يعطر الساحل الجنوبي.. ومع تباشير الربيع تنبت أشلاء الشهداء من جديد قمحاً وتيناً وعنباً وبرتقالاً.. ويزهر دمهم في شقائق النعمان.. أو زهرة الدحنون كما يسميها أهل فلسطين.. هل تعرفون شكل هذه الزهرة؟ إنها زهرة ذات أوراق حمراء قانية بلون دم الشهداء.. وفي وسطها بقعة سوداء ترمز إلى سؤددهم..
لا تصدقوا أن في مآقي الأمهات دموعاً.. لا تصدقوا أن قانا حزينة.. قانا غاضبة، والويل يوم تغضب قانا.. تسألونني أين المصيبة إذن؟ ومن هم المفجوعون؟
المفجوعون هم المفجوعون بكرامتهم.. تلك الكرامة التي تفسخت في مستنقعات الخنوع والخذلان والانهزام.. أو ديست بأقدام سيد البيت الأبيض وهم ساجدون على أعتابه يطلبون الرضا.. أو سفك دمها على مذبح سلام الوهم.. أو بيعت في أسواق النخاسة بثمن بخس للشركات المتعددة الجنسيات مقابل حفنة من الدولارات.. الفجيعة هي فجيعة الكرامة.. والمصيبة هي مصيبة الإدبار من المعركة قبل أن تبدأ حتى..
** ويضيف الدكتور وائل أبو هندي الله أكبر الله أكبر الله أكبر والله إن هذا لهو الدعم الحقيقي يا أمل… أتدرين لمن؟
للمنكسرين في كل أرجاء الوطن السليب، تقولين أنت للمنتصرين في لبنان تصبحون على انتصار، وأقول أنا للمنكسرين في كل أرجاء الوطن تصبحون على وطن، أغيثينا بمزيد من الأمل ساخنا فساخنا من لبنان ومرةً أخرى لا تتأخري.
ويتبع>>>>>> : ساخن من لبنان: دفقة أمل(2)
واقرأ أيضاً:
قانا...مذبحة إسرائيلية جديدة / مؤتمر دمشق لأطباء النفس العرب (3) / البحث عن عباس مشاركة