لن أنسى ما حييت ذلك اليوم الجميل الحزين... الذي جمع في قلبي مشاعر متناقضة تتسم بالحزن والسعادة والحب والكره والخوف والأمل... بعد أن بدأت الحرب الظلمة على شعب لبنان... وقتلت أطفاله وشردت أهله.. خرج قسم كبير من أناسه لاجئين إلى أشقائهم في سورية يلتمسون لديهم الأمن والحب والسلام.. رحل هؤلاء الناس عن أراضيهم خشية صاروخ غاشم ترسله اليد الظلمة ليفتك بالبراءة ويدمر الحب..
وفعلا وجد إخوتنا اللبنانيون من شعبنا كل الحب والحفاوة والتكريم وتطوع الكثيرون لمساعدتهم في المراكز التي قامت باستقبالهم وجاءت تبرعات مرعبة من الملابس والطعام والشراب والكل يريد أن يقدم ويساعد.... وكان من فضل الله علي أنا وزوجي أن وفقنا إلى التطوع في أحد المراكز مع فريق من الشبان والشابات الطيبين برعاية الشركة التي يعمل بها زوجي, وقبل أن أذهب لم يكن لدي أي فكرة عما يمكن أن أراه أو ألمسه في ذلك المركز... فكل ما كان يعتمل في ذهني آنذاك هو كيف سأقدم لهم المساندة النفسية وأشعرهم بحبنا لهم وتقديرنا لظروفهم وألمهم... واعتقدت أني وحدي أفكر بهذه الطريقة..
وجاء المساء وحان وقت الذهاب فاستلقيت المواصلات ووصلت إلى مركز التطوع مع زوجي وقابلنا المسؤولين هناك عن فريق التطوع وهم زملاء زوجي في العمل.. فقادونا إلى غرفة المستودع التي وجدت فيها أكداسا من الملابس الجديدة والطعام والفاكهة جاء بها أهل الخير والعطاء لهؤلاء النازحين إخوتنا في الدم والإنسانية والدين.... وكانت مهمتنا هي فركز الملابس ومساعدة اللاجئين في ذلك المركز على اخذ ما يناسبهم منها... فهم لا يملكون شيئا سوى ملابسهم التي فروا بها....
وفعلا بدأ الجميع يعمل بروح واحدة منسجمة محبة هدفها تقديم كل الحب والعون لهؤلاء المساكين الذين يحلمون في الليل بديارهم التي قد يروها وقد لا يستطيعون... ودخلت أول دفعة من اللاجئين وكانت عبارة عن نساء وأطفال فكانت المهمة موكلة لنا نحن الفتيات لأننا الأقدر على فهم احتياجات النساء وفعلا رافقت كل فتاة منا لامرأة وساعدتها على الاختيار, وطوال الوقت نسمع كلمات الدعاء حينا والشوى والألم حينا آخر.... كانوا مستائين جدا لشعورهم بالحاجة التي تؤدي بهم إلى ذل السؤال, وكان أهم معنى نوصله لهم في هذه اللحظات هو أن ما نقوم به تجاههم إنما هو واجب سوف نُسأل عنه أمام الله تعالى وليس تفضلا وكرما منا....
وتجد الأطفال خجلين حينا وخائفين حينا آخر.... في عيونهم تساؤلات ومحادثات ومشاعر تضطرب ولا تجد طريقها للخروج فلا أحد مستعد لسماعهم في هذه الأوقات العصيبة والمجهدة. كان كل متطوع في هذا الفريق يبذل جهده في إدخال البسمة على وجوههم وبث الأمل في قلوبهم وحثهم على الصبر فهم ليسوا إلا منا وفينا ونحن مستعدون لتقديم كل شيء لهم.... وكانوا يسعدون بمؤازرتنا ومع ذلك فلا شيء يغني عن دفء الفراش والأمان في الوطن والعيش وسط الأحبة والأهل.... فهم يتمسكون بأمل العودة رغم ثقتهم بأن بيوتهم زالت جدرانها ودمرتها الصواريخ الوحشية ولكنها أبدا لا تستطيع تدمير أحلامهم وذكرياتهم وإن كانت سلبتهم بعض أحبتهم...
وانتهى ذلك المساء الحافل بالعمل الطيب وذهب كل لاجئ إلى غرفته التي يتشارك فيها مع عائلتان إلى جانب عائلته يوضب أغراضه ويعيش مع ذكرياته وآماله وأحلامه.... وجلسنا قليلا مع الشباب المتطوعين نلتقط أنفاسنا ويعبر كل منا عن ألمه لحالهم وندعو معا أن تتحسن الأوضاع ويكف الله عنا وعنهم يد الظلم ونشد على أيدي بعضنا ونعد بالوقوف دوما إلى جانب بعضنا البعض لمؤازرتهم.....
واجتمعت عقولنا جميعا على أهم نتيجة لمسناها جميعا بدهشة وهي ."أن شعبنا لازال فيه خير كثير وحب كبير وأمل واعد" ....فلم نتوقع جميعا أن نجد هذا الكم من السواعد الفتية التي جاءت تقدم العون دون أن تطلب شيئا سوى رؤية السلام يعود.... أرادوا جميعا أن يساهموا بما يقدروا عليه ويقدموا ما يستطيعون..... لقد شعرت بشعور غريب عني... شعور لم أعهده من قبل. شعرت تجاه هؤلاء الشباب بالفخر....
أجل إنه شعور الفخر الكبير بمثل هؤلاء.. ووجدت أملا قويا يتعزز في كياني ويدفعني لأضم يدي إلى أيديهم وننهض جميعا لبناء أمتنا والعمل على نهضتها.... تلك هي المشاعر المتضادة التي اجتمعت في عقلي وقلبي معا.
الحب... أحببت جميع الناس من اللاجئين والمتطوعين وأحسست أنني أخت لكل فرد منهم وأن دماءنا واحدة تجري في العروق، الكره..... كرهت الظلم والوحشية واليد التي تبطش بهما والقلوب التي لا تعرف الرحمة.
السعادة :سعدت جدا بشباب أمتي وسعدت أكثر بلمسي لهذا الخير وإحساسي به مما أعاد لي الثقة وسعدت بتطوعي وسعدت بالفخر الذي شعرت به وقررت أن أتطوع.....
الحزن... حزنت لمن تشردوا ويتموا ورملوا..... وبي قلبي قبل عيوني على ذلك... ففراق الاحبة الم شديد..
الخوف، خفت من اليأس أن يعاود التسلل لقلوبنا بعد دفقة الأمل التي أنعشت نبضنا وروت شرايين نفوسنا.
الأمل... أملي ازداد قوة بخير شعوبنا وقوي أكثر بسواعد فتياننا الطيبة.... كل هذا جعل عندي رؤية قوية لا تتغير مهما استمرت الضغوط وكثر الظلم وهي. أن السلام قادم وستحققه تلك القلوب الخير والسواعد الفتية الطيبة ودعم الله العادل.
اقرأ أيضًا:
أدنى من النمل الأبيض!!! / يا سلام على لبنان / وحملوها.... فطارت في الهوا الإبل / لبنان فرصة لإعادة تنظيم البيت من الداخل / على باب الله: أمة في حرب / نصر المقاومة... ومضة أم مسار؟!