ساخن من لبنان:الضاحية الشامخة العالية
ساخن من لبنان الخميس 24-8-2006
برج البراجنة
هذا الصباح كان منذ لحظاته الأولى يشعرني بأن هامًّا لم يتمّ.... وبأنني مضطرٌ لمغادرة لبنان وبعد لم أفعل كل ما يتوجبُ فعله، أغادر لبنان ولم يحدث بعد ما كنت أتوقع وأخشى في نفسي.... وكذلك كانت الأستاذة سمر، كنا نخاف من الدموع عند رؤية النصر الأليم، نخاف من رؤية عذابات الناس وهم أقوياء ومن رؤية الدمار ومن رؤية الطبيعة اللبنانية الجميلة الغنية وهي تجزُّ على جراحها وتبتسم ابتسامة المنتصر........ كيف لنا ونحن مدربو الدعم والمساندة النفسية كيف لنا أن تداهمنا الدموع؟؟؟ وربما مضى الأسبوع كله ولم تكد تغلبنا الدموع إلا قليلا...
لكن الله سبحانه قدر لنا أن نفرغ جزءًا مما نحس في ذلك اليوم الأخير..... صحوت... ووضعت ثياب النوم في الحقيبة وأصبحت على أهبة الاستعداد لطلب إنزال متاعي من الغرفة في الثانية بعد الظهر لأنه موعد الرحيل إلى دمشق ومنها إلى القاهرة، وفي التاسعة وخمس دقائق أخذنا ابننا الشيخ أيمن عبد الوهاب مروان في السيارة التي ننتقل بها، وكان أول تحركاتنا هو زيارة المخيم الفلسطيني برج البراجنة والواقع قريبا من الضاحية الجنوبية، والتي كان الطواف بها هو الجزء الثاني ومن بعده السفر.
في الطريق أشار لنا إلى مدرسة تتبع جمعية الإرشاد والإصلاح الخيرية التي يعمل بها، ودخلنا من الطريق يمينا فيسارا فيمينا...... ثم قال لنا -وأمامنا مربع ضيق من الأرض محصور بين عدة بنايات-: هذا هو موقف السيارات المتاح لسكان المخيم.... ولم نكن بعد نفهم ما يقصد، لكننا شعرنا بالاختناق معنويا لأنه يتكلم عن خلفية ضيقة بين بيوت متقاربة تبدو متهالكة..... ونزلنا من السيارة تاركين مفتاح تشغيلها مع أحد الموجودين بالمكان، وإذا في استقبالنا الشيخ محمد عبد الحليم إمام مسجد هيئة الكلمة الطيبة والذي اعتذر لنا عن المسافة التي سنضطر لقطعها على الأقدام فرادى خلفه كدليل عبرَ دهاليز المخيم.... حتى نصل إلى مقر الجمعية حيث نعقد اليوم التدريبي.... فقلت له أنني وزميلتيَّ نشرف بأن نزور مكانا كهذا المكان الصامد، وظهرت لنا كتل من البيوت المتلاصقة بينها دهاليز قلما تسمح بمرور اثنين جنبا إلى جنب.... وكان الواقع أقوى من كل أفكارنا وتخيلاتنا كان أثقل ما نحتمل!
سألته عن عددِ سكان المخيم فأذهلني رده، وعرفت أن المخيم أسس سنة 1948، وأن الحال الآن أفضل من قبل بكثير... غلبتني الدموع فبترتها قائلا: هذا النوع من الحياة إن شاء الله يصنع الأقوياء المؤمنين الأعزاء، وبينما كنت أتقدم الطابور معه غارقا بين مشاعري وأفكاري وإحساسي بالتقصير سألته هل رأى حكام المسلمين حياتكم هذه!؟ فأوجعني أن يقول يزورنا من غير العرب والمسلمين حكامٌ وهيئاتٌ دولية أكثر من زيارة من تسأل عنهم يا دكتور! قلت حسبنا الله ونعم الوكيل ولكن يا أخي...
ولم أكمل كلمتي لأنه أشار بأن علينا التوقف قليلا لأن بقيتنا تأخروا ولأن الخطأ باتخاذ دهليز جانبي قد يضيع بعضنا منا..... ولأن داليا وسمر والشيخ أيمن تأخروا.. كانت سمر تلتقط صورا للمخيم، والتقطت أنا بعض الصور بالمحمول... وأشار إلى مستشفى وحيد في المخيم وقال هذا الوحيد المتاح لخدمة كل أهل المخيم،....
لم تكن الدهاليز آمنة من طفح المجاري وكنا نسير على قنوات تجري بها المياه، ولم يكف الشيخ محمد عبد الحليم عن تحذيرنا من عدم الانتباه لما تحتنا أثناء المسير.... وما وصفت.... مهما وصفت.... لا أقول لكم أنني أستطيع نقل ما رأيت.....
أخيرا وصلنا مقر الجمعية.... تفضلوا وجلسنا في غرفة بالطابق الأرضي وأهدى كل واحدٍ منا قرصا مدمجا عن الجمعية ونشاطاتها، وقابلتنا مسئولة من القسم النسائي بالجمعية، وانشغلت معها سمر في لقاء صحفي مصور سألتها وسألتها... وهربت من الدموع أمام امرأة قوية تحكي بعزة وثباتٍ عن جراحها وجراح أهلها..... وكيف تقوم بتضميد الجراح هي ومجموعة من المتطوعات،... وكيف تصرفوا في الحرب وكيف كانت ردود أفعال الأطفال والكبار....
وحين وصلنا إلى غرفة التدريب بالطابق العلوي وجدنا الحضور كله نسائيا.... قلت بارك الله فيكن.. ولكن أين الذكور؟؟ كانت الإجابة يسعون على أرزاق الناس كان الله في عونهم، وبدأ الشيخ محمد عبد الحليم بالتقديم للدورة، فقدمني بذكر ما فاجأني أنه منقول من صفحة سيرتي الذاتية في مجانين ولا أذكر متى حدثت الصفحة؟؟؟ وكذلك قدم الدكتورة داليا الشيمي والأستاذة سمر، وبعد أن قدمت سمر للمشروع، قدمت أنا العرض الخاص بي وقدمت له بشيء مما كان يدور في ذهني من قبل وما يزال عن ارتباط نشأة اضطراب ما بعد الصدمة تقليديا في كتب الطب النفسي الأمريكية وكلاسيكياته التي تدرس في جامعاتنا لطالبي الدراسات العليا بالحرب العالمية الثانية وما حدث لليهود فيها ثم بما حدث للأمريكان في حرب فيتنام.
وأخيرا بما أجري في الكويت من دراسات لبيان أثر الاجتياح العراقي للكويت على الأخوة الكويتيين، وأن هناك في تلك الكتب إغفالا متعمدا لنشر أو الإشارة لدراسات عن أثر الحروب على الفلسطينيين أو عن أثرها على العراقيين!، كذلك هناك ما يجول في خاطري عن الوجود المحتمل لاختلافٍ يتعلق بخصوصيتنا الثقافية وأنني لم أدرس الموضوع بنفسي بعد... وأن من الدراسات العربية الفلسطينية -التي أعلم أنها موجودة- ما لم أزل أدرسه، وهنا طلبت داليا الشيمي التعليق ويبدو أنها كانت قد فاتها كثيرٌ مما قلت: حيث أشارت إلى وجود كثيرٍ من العمل في فلسطين خاصة على الأطفال، فوضحت لها أنني أتكلم عن التحيز في النشر ضد ما يفضح أداة الحرب الإسرائيلية الأمريكية في نفس الوقت الذي تضخم فيه الأبحاث التي تدرس ضحايا الإرهاب من وجهة النظر الأمريكية!
أكملت عرضي، وتركت قاعة التدريب مع سمر وأيمن تاركين داليا لتكمل اليوم التدريبي بينما نتجه نحن إلى الضاحية، وخرج معنا الشيخ محمد عبد الحليم ليكون دليلا لنا في طريق العودة إلى حيث أوقفنا السيارة، وعرفت من أحد من قابلتهم في طريق العودة وعرف أننا متجهون إلى الضاحية أننا سنجد "عجأة كثير" أي زحاما شديدا في طريقنا إلى وعبر ومن الضاحية....... وهو ما كان.
ويتبع >>>>>>>: ساخن من لبنان:بيروت دمشق القاهرة
اقرأ أيضا:
لبنان لماذا؟ وفلسطين والعراق لا؟ مشاركة / ليه مش بتمسك إيدي، مشاركة