مما يضايقني أن يختصر أحدهم ما يمكن أن أقدمه من تحليل هنا أو رأي تفصيلي هناك، قائلا: طيب… مش عاوزين نبقى متشائمين،.. ويكمل!!
لأن من معالم السفه العقلي والاجتماعي الذي نعيشه –في رأيي– أننا نضع أو نعالج أمورنا بين التشاؤم والتفاؤل، وهي أحكام انطباعية أو شعورية "في أحسن الأحوال" وهذا جزء من محنة العقل في حياتنا، لمن ضايقهم أن البابا يتهم المسلمين بمعاداة العقل والعقلانية!!
المهم.. وجدته يقول لي، وضمير الغائب يعود هنا على صديق، وليس على البابا بكل تأكيد!!
قال لي: شعرت بنوع من افتقاد للمستوى الذي أطمح إليه من الجدية في ذاك اللقاء الذي ضمنا مع آخرين أغلبهم من الشخصيات العامة، والطبقة السياسية المصرية بأطيافها!!
فقلت له: ألم تسمع مني منذ زمن أن أزمة الحبيبة مصر إنما تكمن في نخبتها، وأنه يوجد ما هو أكثر بؤساً من حكوماتنا إلا معارضتنا!!
صحيح أنني لا أقول هذا كثيراً لأنه ـكالعادةـ يفهم خطأ، فهو عند السامعين يعني التشاؤم -تاني!!- أو يعني الهجوم على من يعملون في ظروف صعبة بكل المقاييس، أو قد يفهم أنه تبرير للقعود عن العمل للإصلاح –كما عند البعض– أو غير ذلك من الالتباسات الشائعة في حياتنا.
والبؤس عندي يعني غياب الأفق والخيال والبرنامج الحقيقي لنقل الناس من حال إلى حال ليفعلوا ونفعل كلنا ما نطمع إليه، ومن البؤس تغليب المصالح الشخصية واعتبارات الظهور والوجاهة على مصلحة الناس وعلى حساب الحقائق والكفاءات.
قال: أشعر أن في الأمر مايشبه "الاستمناء"
قلت له: وهو ما أراه، وأتحدث عنه منذ فترة.
وفي ظني أن السلطة لمدة تزيد على العقود الخمسة تحكمنا فيها نفس الأفكار، بل وأحيانا نفس الوجوه، وتتوارثنا عصابات في صورة عائلات، أو تجمعات مصالح تسيطر على عالم الأعمال والسياسة تماما، وتم إخصاء كل محاولة للإنعتاق من هذا الحال، وملاحقة وتدويخ كل من فشلت العصابات في بعثرته!!
ومن جانبها استسلمت المشاريع، التي هي في الأصل منافسة وبديلة، لحالة من الركود والجمود، وإعادة إنتاج الذات، أو محض المحافظة عليها، والرضا من الغنيمة بالإياب سالمين!
قلت أيضا: هناك فارق آخر هو فشل المعارضين في الوصول إلى معادلة أو صنيعة تجمع بين الراديكالية الجذرية في الرؤية والممارسة، وبين المدنية والسلمية والفاعلية والجدية، وفي ظل هذا الفشل فإنها انتقلت أي الاتجاهات التي كانت جذرية وعنيفة – إلى معادلة سلمية، ولكن غير جادة ولا فعالة بالقدر الكافي أو المطلوب، وهذا قصور في الوعي والإدراك لوسائل وأساليب الجهاد المدني المتنوعة والمؤثرة جدا دون عنف، أو هي صارت جدية وسلمية، ولكن بلا خيال، ولا أفق، ولا مشاريع ملهمة للتغيير الواسع والسريع نسبيا!!
قال: ولماذا لا نخاطب الناس بهذه المعاني، وليكن شعارنا ورائدنا أن هناك وجوه كثيرة ينبغي أن تتقاعد، وتترك الفرصة لغيرها بدلا من استمرار هذا البؤس، ضحكت من الأسى، لأنه لا أحد في مصر يتقاعد إلا أستاذنا "فريد عبد الكريم" رحمه الله رحمة واسعة، وهو محامي ناصري معروف، وجد نفسه وقدراته قد ضعفت عما تحتاجه السياسة، وأتحدى لو أن واحد في المائة، وربما في الألف أو المليون يعرفونه "رحمه الله"!!
أذكره وكنا في مطلع التسعينات قد قررنا حوارا بين الاتجاهات المختلفة في مصر على مستوى الشباب، وتبنت نقابة المحاميين الفكرة -فيما أتذكر- وكان يرأس جلسة من الجلسات، فاشتكيت له من التدخين، الذي يؤذيني جدا، والقاعة ضيقة والجو خانق، فقال، وكان مدخنا شرها، ولكنه في حزم وسرعة وجدية قال: جاءني طلب يشكو من التدخين، ومن الآن أعلن: لا تدخين في القاعة، وكان خطيبا مفوها يتكلم من قلبه، وبكل أعصابه، وتشعر بحبه الجارف لفكرته، ولهذا البلد، الذي لا يشبع من كثرة العشاق، ولا يتورع عن قتلهم حبا أو إهمالا أحيانا!!
وأتذكر الآن جيلا من الرواد أتيحت لي الفرصة أن أقترب منهم شخصيا لأرى جبالا شامخة أفخر أنني أنتمي معهم إلى وطن واحد، هو الذي نحن بصدده نتكلم، ونأسى ونأمل!!
وأرثي لأجيال أصغر لم تر في مصر رسول المسوخ والأقزام، لأن الهامات الكبيرة رحلت بالموت والهجرة، أو هي في السجون ذات القضبان، أو سجون النسيان تنتظر دورها، وما أكثر ما ننسى في مصر!!
قلت لصديقي: إذا خرجت لتقول هذا الكلام للناس ستصلهم الرسالة الخطأ غالبا، سيقول البعض: تشاؤم، أو هجوم، أو... الخ.
المشكل يا صديقي أن أغلبية ساحقة ممن نتكلم إليهم قد صاروا بلا عقل أو عقلانية تزن الأمور، وتستوعب التركيب، وتفهم التعقيد، وتقدر المصالح والمفاسد، وتستطيع تحديد حجم ونسبة كل عامل من العوامل، أو جزئية من الجزئيات، إنها عقلية تنسى موضوع الفيلم، ولا أتذكر سوى الأفيه، كما قال أحدهم لي محقا!!
عقلية الأكليشيهات والقوالب والإيفيهات كيف يمكن توصيل هذه الصورة المركبة إليها بتركيبها!!
قلت: يبدو الأمر صعبا، وإن لم يكن مستحيلا!!
قال: لو كان مستحيلا، يبقى نتقاعد نحن!!
قلت له دعنا نفكر ونتقابل، ولكن قبل ذلك ماذا لو كتبنا هذه الأفكار: عن الجدية والمستقبل، والمعارضة والنخب الناس، والذي منه!! نكتبه لأنفسنا على الأقل من أجل التطوير أو حتى للذكرى.
قال عندك حق، وإلا كان كلامنا نحن أيضا مجرد طق حنك.
وأقول سلام يا صاحبي، وقد فعلت ما اتفقنا عليه، فماذا عنك؟!
3/10/2006
اقرأ أيضًا:
على باب الله: لبنان في القلب / على باب الله: أنا والجهاد وزويل!!