مرة أخرى يعود الكاتب العراقي المقيم في بريطانيا والمعارض السابق، علي الصراف إلى كتابة مقالة تسبح عكس التيار الذي تمثله أقلام عراقية مختلفة بعضها محسوب على الاحتلال. فبعد مقالته "اعتذار لأروع دكتاتور" يعود الصراف اليوم بكتابة مقالة تصلح لأن تكون مرافعة قضائية وتاريخية عن الرئيس العراقي.
لن نجادل فالرئيس العراقي صدام حسين كان ديكتاتورا..!! حسنا. ولكن، ماذا بعد؟ هو نفسه لم يكن يزعم أنه "أبو الديمقراطية". والرجل لم يخدع أحداً على الإطلاق في أنه صاحب قرار وكلمة. وكان واضحا بما فيه الكفاية، خلال محاكمته، عندما ألقى عبء جميع الاتهامات الموجهة إلى رفاقه على نفسه. قال "أنا قررت، وأنا أتحمل المسؤولية". هذا ما كان. وكان من حقه، بحكم منصبه، أن يقرر.
لم يكن العراق، قبل صدام، جمهورية أفلاطونية، لكي تتحول "ديكتاتوريته" إلى قضية. ولا كانت توجد أسس لجعل الديمقراطية، بالمقاييس الغربية معيارا لما يمكن أن يفعله رئيس في أي بلد عربي آخر. ومثل غيره من بلدان العالم النامية، فإن الكثير من متطلبات الإدارة في العراق كانت، وما تزال، وستظل، تتطلب سلطات صارمة، فردية، وأحيانا مطلقة.
الديمقراطية ليست على أي حال، هبة. إنها مشروع. ومثل كل مشروع، فإنها تتطلب أسسا ومقدمات اجتماعية واقتصادية وثقافية، وما لم تتوفر هذه الأسس والمقدمات، فان الديمقراطية لن تكون سوى هراء، لا يختلف في مضمونه، حتى عن هراء الانتخابات التي كان يجريها، بلا مبرر، نظام صدام نفسه. وهى هراء، لا يختلف عن هراء الانتخابات التي يجريها، بلا مبرر أيضا، نظام الاحتلال.
الأسس لبناء ديمقراطية لم تتوفر في العراق بعد. نعم هناك أسس، كما هو واضح الآن، لكل بلية وكارثة طائفية، ولكل أعمال السلب والنهب والقتل والتعذيب، ولكن لا توجد أسس لبناء ديمقراطية. لا الاقتصاد ولا الثقافة ولا طبيعة العلاقات الاجتماعية تسمح بقيام ديمقراطية. برلمان الترهات والإمعات والتفاهات، ليس هو الديمقراطية. ولا انتخابات النصب والفتاوى وشراء الضمائر
إذا كان الحال كذلك، لا أحد يجب أن يلوم صدام على دكتاتوريته.
في الواقع، يجب أن يقال له "شكرا"، حتى ولو مع مليون "ولكن" تالية ثم، ماذا كان نوع تلك الديكتاتورية؟
لقد كان الرجل صارما، ولا يريد لكلمته أو هيبته أن تنكسر. هذا كل ما في الأمر. وكسر الكلمة أو الهيبة قد يعنى الموت، ولكن أحدا لا يستطيع أن يزعم أنه، بعدهما، لم يكن يصغي. كان يريد أن تُحترم سلطته، وأن توضع فوق الرف وخارج الجدل. هذا كل ما في الأمر.
هل هذا كثير؟
أمن أجل هذا انقلبت على رأسه، ورأس العراق، الدنيا؟
إذا كان العراقيون يرتكبون اليوم، و"في ظل الديمقراطية"، بحق بعضهم البعض جرائم بشعة، فلماذا يجب أن يلام نظام صدام على ما كان يرتكب في ظله من جرائم؟
ماذا كان يمكن للمرء أن ينتظر في بلد تعوزه إمكانيات وآليات الحوار وقبول الاختلاف والتعددية، غير القتل والانتهاكات؟
وعندما تكون المرجعيات الثقافية للسلطة هي ذاتها المرجعيات الإسلامية، فهل من الكثير على أي رئيس أن يتصرف كخليفة؟
هل كان مطلوبا من صدام أن يستورد مرجعيات ثقافية وسياسية من الخارج، لكي يكون نظامه مقبولا؟ ومَنْ من العراقيين كان سيقبله أصلا؟
أيهما أقرب للثقافة العربية والإسلامية: أن يكون الرئيس العراقي تجسيدا لسلطة هارون الرشيد المطلقة، أم تجسيدا لسلطة برلمان أثينا؟
هل يجب، هكذا لأسباب عجيبة، إن نحوّل النقاش بشأن الديمقراطية والديكتاتورية، إلى لغو فارغ، لا يأخذ في نظر الاعتبار المرجعيات الثقافية للمجتمع، ولا يراعى متطلبات إرساء بنية تحتية للديمقراطية؟
أهي كلمة، يقال لها "كن" فتكون؟
فإذا لم تكن.. لماذا إذن، نحاسب صدام على دكتاتوريته وجرائم نظامه؟
ثم بأي معني؟ ووفقا لأي نموذج؟
ما هو الأساس المرجعي الذي يجيز لمحكمة، جاءت من زمن ما بعد العولمة، أن تحاكم هارون الرشيد على ما كان يفعل في مجلسه؟
طبعا، المحكمة التي تحاكم الرئيس صدام، ليست بطبيعة الحال "عولمية" ولا بأي معني، وهى تفتقر للأسس القانونية افتقارها للقيم، ولكنها مع ذلك تجرؤ على أن تحاكم رئيسا بقانون تم سنّه بعد وقوع (الجريمة)، بل ومن دون أن تأخذ في عين الاعتبار أنه كان يمارس سلطته أو يدافع عنها.
وهكذا، ففي حين يجوز، لحكومة ما بعد الاحتلال أن تسحق مدنا بكاملها لوقف أعمال المقاومة ضدها، فانه لا يجوز لرئيس أن يقرر إعدام خونة -أو قل مقاومين- نصبوا كمينا لقتله بالتعاون مع دولة أجنبية كانت تخوض ضد بلدهم حربا، كيف يمكن لسخف كهذا، ألا يكون سخفا؟
مع ذلك، فان صدام يستحق أن يُعدم. وإنما لأسباب لا علاقة لها لا بدكتاتوريته ولا بجرائم نظامه المماثلة لجرائم النظام الذي خلفه.
هناك، على الأقل، 10 أسباب أهم، وهى ما يجعل جرائمه ذات طبيعة مختلفة ولا يجوز التسامح معها.
هنا قائمة الجرائم الحقيقية التي ارتكبها صدام. ويجب الاعتراف بأنه فعلها كلها بمفرده. وهو يتحمل عنها كامل المسؤولية. لأنه كان، عندما ارتكبها، حاكما مطلقا وديكتاتورا ويقتل كل من يعارضه فيها:
أولا: صدام، حتى عندما كان نائبا، أمم النفط العراقي، بقرار فردى جائر. أعاد للعراقيين ثروتهم المنهوبة، مما تسبب بالكثير من الأذى والضرر لشركات النفطية الأجنبية.
ثانيا: شن حملة ظالمة لمحو الأمية. حتى أن نظامه المخابراتي، كان يراقب ليس جميع الأطفال، من أجل الذهاب إلى المدرسة، فحسب، بل وحتى آباءهم وأمهاتهم أيضا. وذلك حتى انخفض معدل الأمية إلى أقل من 10% في بلد كان ثلاثة أرباعه يعيشون سعداء من دون قراءة وكتابة. ومعظمهم من أبناء ما يسمى اليوم بـ"الأغلبية الشيعية". ويبدو أن الوقت قد حان لهذه "الأغلبية" لكي تنتقم منه لقاء العذابات والمرارات التي تكبدتها خلال تلك المرحلة المظلمة من تاريخ الدكتاتورية، خاصة وإن الكثير من أبنائهم صاروا، بسب تلك الجريمة البشعة، دكاترة ومهندسين من دون أن يرتكبوا أي ذنب.
ثالثا: أصدر قانونا بجعل التعليم إلزاميا حتى المرحلة الثانوية، مما حرم مئات الآلاف من العوائل العراقية من الاستفادة من تشغيل أبنائها في بيع السجائر في الشوارع.
رابعا: منح الأكراد حكما ذاتيا، يقال أنه كان "شكليا"، منحهم من خلاله سلطات أكثر مما تمنح انجلترا لمقاطعة ويلز، وذلك من دون وجه حق، خاصة وان الأكراد في الدول المجاورة يتمتعون بحقوق أكبر بكثير ولا يتعرضون للاضطهاد والتمييز.
وزاد على ذلك، بأن حول اللغة الكردية إلى لغة ثانية يتعلمها العراقيون إجباريا، وأعاد بناء منطقة كردستان، ولكنه شدد المراقبة على الحدود مما حرم "قجغجية" الأحزاب الكردية من العيش على أموال تهريب البضائع. وهو منحهم صحفا تصدر باللغتين العربية والكردية، الأمر الذي كان يعد بمثابة انتهاك صارخ لحقوق الأكراد في مواصلة الأمية. وعين نائبا كرديا له، بينما كانت "الأغلبية" -أيضا؟- الكردية في العراق تريد أن يكون منصب الرئيس من حقها، مع منصب وزير الخارجية وتشكيل وزارة خاصة لـ"القجغجية" لتهريب النفط إذا أمكن.
خامساً: حوّل ثروات العراق لبناء منشآت صناعية، بينما كان من اللازم التركيز على الاستيراد من الخارج.
سادساً: منح الفلاحين، وفقا لقانون ينتهك جميع الأعراف الدولية، أراض زراعية أكثر مما يستطيعون فلاحتها. وعندما عجزوا، زودهم بالقوة، بمعدات ومكائن وآليات، حتى إنه كان يوزع ثلاجات وتلفزيونات على الفلاحين مجانا لكي يجبرهم على شرب ماء بارد في الصيف، وعلى متابعة برامج التلفزيون، الأمر الذي حرمهم من النوم مبكرا. وكانت أجهزة مخابراته تنظم عمل الفلاحين في جمعيات تراقب إنتاج بعضها بعضا، مما شكل ضغوطا غير إنسانية على الكثير من الفلاحين الأبرياء الذين اعتادوا الاكتفاء بزراعة ما يحتاجونه لأنفسهم فقط.
سابعاً: جعل التعليم الجامعي مجانياً، وحول الجامعات إلى مؤسسات علمية تستقطب الخبرات وأسفرت عن ظهور علماء في مختلف مجالات الطب والهندسة والكيمياء والكهرباء والالكترونيات وغيرها من الحقول العلمية الأمر الذي كان يعد بمثابة تشويه متعمد للإمكانيات الوطنية ومحاولة خبيثة لغسل الأدمغة.
ثامناً: أصدر قانونا يضمن الحقوق المدنية للمرأة ويكفل مساواتها بالرجل، الأمر الذي لا يمكن النظر إليه إلا على أنه إهانة للتقاليد والقيم العربية والإسلامية العريقة.
تاسعاً: أراد للعراق أن يكون قوة إقليمية عظمي، تملك أسلحة دمار شامل وتشكل عاملاً للتوازن مع القوة الإسرائيلية وتتحدى غطرستها، مما كان يشكل جريمة دولية عظمى.
عاشراً: صحيح أنه كان ينفق على مشاريع البناء من دون حسيب ولا رقيب، إلا أنه لم ينهب درهما واحداً، ولم يسمح لأي من مسؤولي نظامه أن تكون لهم حسابات في بنوك أجنبية، مما حرم الكثير من المناضلين الوطنيين والديمقراطيين من الاستفادة من أموال بلدهم وعائداته.
ألا يجب بالنسبة لمحاكمة عادلة أن تأخذ هذه الجرائم في نظر الاعتبار؟ ألا يستحق مجرم وديكتاتور وطاغية كهذا الإعدام عشرين مرة؟
مع ذلك، فان هناك سببا واحداً يُجيز إبقاءه حيا: تعذيبه بأخذه في جولة تفقدية ليرى بأم عينيه الجثث التي يتم حرقها في وزارة الداخلية. وليرى بأم عينيه كم أستاذا جامعيا بقى حياً في العراق. وليرى بأم عينيه كيف تعمل المستشفيات. وليرى بأم عينيه الأطفال المشردين الذين عادوا ليبيعون السجائر في الشوارع. وليرى بأم عينيه كم ساعة كهرباء تحصل المنازل يوميا بعد إنفاق 20 مليار دولار على مشاريع "إعادة البناء" البول بريميرية.
وليرى بأم عينيه كيف يتم تحويل المليارات إلى حسابات خارجية لقاء صفقات خردة، وليرى بأم عينيه المذابح الطائفية التي يقع ضحيتها العشرات يوميا، وليرى بأم عينيه ماذا بقى من حقوق "الماجدات" وليرى بأم عينيه ماذا يفعل "القجغجية" فى كردستان، وكيف يكون الحكم الذاتي مشروعا انفصاليا. وليرى بأم عينيه أحزابا تسمى نفسها "شيعية" و"سنية" وتقول إنها "غير طائفية". وليرى بأم عينيه كيف يتم تقاسم العراق حصصاً. وليرى بأم عينيه كيف يجرى التمثيل حتى بجثث القتلى. وليرى بأم عينيه ماذا تعنى الديمقراطية ساعتها، سيموت والدمعةُ في عينيه قهراً. ساعتها، سيموت وفى قلبه غصّة. ولكنه سيعرف أنه لم يكن، بعد، ديكتاتورا بما فيه الكفاية، وأن العراقيين الذين يستحقون زبانية الاحتلال ما كانوا ليستحقونه أصلا.
اقرأ أيضا:
من قصيدة لبغداد / سقوط بغداد / من العيد إلى يوم العراق البعيد / على باب الله 13 /3 مع العراق / لبنان لماذا؟ وفلسطين والعراق لا؟ مشاركة / مدونات مجانين: كيف ننجو بالعراق؟