سهرة مع سكان القبور (1)
............... وبعد رحلة طويلة وشاقة في سراديب موحشة شاهدت من بعيد أضواءا خافتة وسمعت أصواتا مبهمة، وحين اقتربت أكثر وجدت كاميرات تصور ولكن المخرج يحاول التحكم في درجة الإضاءة وألوانها حتى تعطي الجو الأسطوري والمخيف لهذا المكان الذي هو بطبيعته ليس بحاجة إلى أي تقنيات فنية. عندئذ اتصلت ببيتي أطمئنهم حيث كانوا في غاية القلق والضيق من تهوري (المعتاد لديهم ولكن هذه المرة كان متجاوزا للحدود المقبولة). وقبل التصوير وبعده دارت أحاديث مع من رأيتهم من ساكني هذه القبور، كنت أسألهم أسألة تبدو لهم ساذجة ولكنها بالنسبة لي مهمة:
* منذ متى وأنتم في هذا المكان؟
- لا نذكر ربما منذ خمسين سنة أو يزيد
* هل فكرتم في الانتقال إلى خارج المقابر لو أتيحت لكم الفرصة؟
- كيف ولماذا؟!!!!!!!
* بماذا تشعرون وأنتم بين الموتى في هذا الصمت والظلام طيلة حياتكم؟
- ؟؟؟!!!!
* هل توجد لديكم دورات مياه؟
- في الأغلب لا... وإن وجدت فهي مجرد حفر تمتلئ ثم ننزحها بعد ذلك
* هل تخافون؟؟
- أتظننا لسنا بشرا؟؟!!
* كيف تشعرون بالسعادة وأنتم في هذا الجو؟؟!!!
- ؟؟؟؟!!!!!!!!!!!!!
* هل زاركم أحد المسئولين؟
- ........................
* هل اهتمت بكم الهيئات الدولية المهمومة بأطفال الشوارع والمرأة وحقوق الإنسان؟
- ؟؟؟؟؟؟؟!!!!!!!!!!!!!!!
* (مازحا ومحاولا الخروج من هذا الجو الكئيب ومن جفاف أسئلتي وفرط فضولي) قل لي يا عم رشوان كيف قضيت ليلة زفافك هنا وماذا فعلت؟؟؟!!!!
- (متنهدا وسارحا بعينيه في أسى) لا تذكرني.... قضت زوجتي عدة أيام تبكي ولم تكن تتخيل أنها ستستطيع العيش في المقابر حيث كانت تعيش قبل ذلك في شبرا الخيمة في غرفة واحدة مع خمسة من أخواتها وأمه وأبيها ولم تتعود على جو المقابر الهادئ إلا بعد شهور وكادت تطلب الطلاق... ومع هذا فهي الآن تفضل هذا المكان على بيتهم بعد أن زاد الزحام هناك.
* هل ترون أشباحا أو خيلات أو عفاريت؟؟
- كثيرا لدرجة أننا تعودنا عليها نحن وأبناءنا وأصبحت جزءا من حياتنا، ولكننا تعلمنا أن لا نخاف منها فالجني لا يحب المواجهة فبمجرد رؤيتك له يختفي فجأة لأنه في حالة تشكله في صورة إنسان أو حيوان يصبح قابلا للقتل أو الضرب وهو يخشى ذلك، هذا ما سمعناه من فضيلة الشيخ الشعراوي، وما سمعناه من أبائنا من قبل ونعلمه لأولادنا.
* هل تشعرون بالغضب من المجتمع الذي ألجأكم إلى هذه الأماكن تعيشون فيها؟؟!!!
- أحيانا... وهنا تدخل ابنه الطالب الجامعي قائلا: مصر هي البلد الوحيد الذي يعيش عدد كبير من أهله في المقابر.
* هل فكرتم في الشكوى أو التقدم بطلبات للمحافظة للحصول على شقق في المجتمعات الجديدة ومشروعات الإسكان العديدة؟؟؟
- (نظر إلي ّ نظرة لم أفهم معناها)
* هل تشاركون في الانتخابات بأصواتكم؟
- دعنا من السياسة نريد أن نعيش ونربي أولادنا..... وهنا تدخلت زوجته : طب بس يا ريت يريحونا من التفتيش كل شوية مرة عن الإرهابيين ومرة عن المخدرات واحنا لا لينا دعوه بدول أو دول ، إحنا عايزين ناكل لقمتنا بالحلال وننام في فرشتنا آخر النهار.
* كيف تتوزعون في المقبرة أثناء نومكم؟؟؟
- نفرش للأولاد والبنات فوق المدافن وأنام أنا وزوجتي وطفلتنا الصغيرة على الأرض.
* كم عدد الأولاد الذين ينامون معكم؟؟؟
- ثمانية.
* في غرفة واحدة؟
- تقصد حوش
* وكيف ت..............؟؟؟
- ربك بيسهل ويستر وآدي احنا عايشين كده بقالنا سنين طويله
* هل يلعب أطفالكم ويستمتعون كما يفعل سائر الأطفال في الدنيا؟؟؟
- هم يجرون في الحوش بين الميتين
* هل تخافون من الأموات؟؟؟
- هم أطيب كثيرا من الأحياء
* هل تخافون العفاريت؟؟؟
- هم أرحم علينا من البشر... خمسون سنة وأنا أعيش هنا لم يؤذني أحد منهم، أقصى ما يحدث أن أرى أحدهم يتحرك بجانبي بسرعة ثم يختفي، أو أرى قططا أو كلابا سوداء تملأ المكان على غير العادة ثم تختفي، وحتى أطفالنا يلعبون مع هذه القطط والكلاب ويكتشفون بعد لحظات اختفائها، وكثيرا ما نسمع أصواتا في المكان ولا نرى أحدا، ولكن لم يمسنا منهم أذى، وربما لا تصدقني إن قلت لك أنني أصبحت أكثر خوفا من الناس فقد أصبحوا وحوشا.
* كيف تقضون العيد؟؟؟
المقابر تكون عامرة بخيرات الله والناس في العيد هنا أكثر من أي مكان آخر ، والعيد بالنسبة لنا موسم.
* كيف تفكرون في الموت؟؟؟؟؟
- الموت راحه
* هل تفكرون في المستقبل؟
- المستقبل بيد الله
* هل تحلمون؟
- رد مازحا ومنبها لي أنني زودتها: الحلم من غير سبب قلة أدب
* (لم أرتدع وأكملت مشواري في الأسئلة فأنا أشعر بأنها فرصة لا تعوض للغوص في أعماق نوع مختلف من البشر يدفعني فضولي المهني لمعرفة تركيبتهم النفسية): هل تشاهدون التليفزيون؟؟؟
- أحيانا نذهب للحوش الكائن على رأس الشارع فيه تليفزيون ودش... ولكنني أستمتع أكثر بالراديو أفتح على إذاعة القرآن الكريم وإذاعة لندن... دول ما بيكذبوش
مازال في رأسي آلاف الأسئلة والاستفسارات، وفي نفسي شعور بالذنب تجاه تلك المخلوقات التي شاركنا بسكوتنا على وصولها إلى هذا الحال.
وحين انتهينا من التصوير رافقني أحد الشباب ليدلني على طريق الخروج، وحاولت التقاط بعض الصور بكاميرا المحمول من هذا العالم الغريب ولكن الظلام حال بين تسجيلها بوضوح، وطلب مني مرافقي أن أنطلق بالسيارة ولا أتوقف لأحد حتى لا أتعرض لمشكلات فالمكان هنا غير آمن، وفهمت ذلك ولكن فضولي جعلني أتوقف في طريق عودتي أمام الكثير من الأماكن للاحتفاظ بها في ذاكرتي ولتخيل حياة قاطنيه، وكانت كاميرات خيالي تنتقل فجأة إلى حيث حياة الترف والبذخ في الفنادق والقصور وإلى الفيلا ذات الستة ملايين دولار التي أهداها رجل أعمال مصري لمطربة لبنانية شابة في أحد منتجعاته السياحية، وتلك الاحتفاليات الأسطورية التي نشهدها على شاشات التليفزيون، وبعد لحظات وجدتني خارج المقابر ولكن صورها وصور ساكنيها لم تبرح خيالي حتى الآن ولا أظن ذلك سيحدث في المستقبل القريب، وفكرت أن أحمل هذه الرسالة وأذهب بها إلى الوالي، ولكن شيئا غامضا منعني.
اقرأ أيضاً:
الحلم بعد الأخير لنجيب محفوظ / أسرار النجاح