كنت أعتقد أن الجميع يرى ما يحدث في فلسطين على الأقل –على الأقل– فنحن نسمع ونشاهد ولا نشارك، حتى جمعتنا أمسيتنا الشهرية النسائية في منزل إحداهن.. خليط من ساكنات العمارة الفخمة التي تسكنها صديقتي بأحد أحياء القاهرة الراقية، وقد دأبنا منذ زمن على عقد لقاء نسائي شهري بمثابة صالون حريمي نتبادل فيه الخبرات والأفكار والأخبار أيضا.. تواجدت فيه بصفة متابع إعلامي بحكم عملي الصحفي حيث ألقي الضوء على أكثر الأحداث النسائية أهمية خلال الشهر. بدأنا الكلام والحديث وكنت أنوى أن يتركز على أحداث بيت حانون وما فعلته نساء بيت حانون، ولكن سؤال إحداهن المتعجب نزل علي كأمطار صيف الكيان الصهيوني أو غيوم خريفه عندما سألتني ببراءة ودلال عجيبين: "هوه فيه إيه في بيت حانون؟!
وكان على أن أكتم أنفاسي تماما حين اكتشفت أن كل من بالأمسية النسائية المباركة –طبيبات ومهندسات وخريجات جامعات أجنبية- يشاركنها التعجب والسؤال!
حاولت استعادة قواي العقلية وبدأت أحدثهن عن المائتي امرأة اللاتي خرجن في بيت حانون استجابة لنداء بثته الإذاعة واستطعن اقتحام مسجد النصر الذي كانت تحاصره قوات الاحتلال بدباباتها وبداخله 70 من رجال المقاومة الفلسطينية.. وأن المشهد انتهى بنجاح النسوة في مهمتهن بينما فتحت عليهن نيران العدو الصهيوني فقتلت امرأتين وجرحت 22 في مشهد مؤثر نقلته الفضائيات ولا زال هتاف إحداهن يتردد على شاشات الفضائيات وهى تصرخ "فينكم يا عرب"!
هكذا وقفن.. بلا دروع ولا سلاح ولا حصانة من أي نوع.. عاريات الصدور ولكن ليس على طريقة ملكات الجمال وفتيات ستار أكاديمي ولا نجمات الكليبات. تعجبت الحاضرات.. منهن من اندهشت قائلة "معقولة"! ومنهن من رفعت شعار "لا تعليق"، ومنهن أيضا من لم تبال!
حسنا.. صدمة ردة الفعل ليست بأفضل حالا من صدمة عدم الوعي بما يدور حولنا.. ولأنني لست من أنصار اليأس والاكتئاب فقد اجتهدت في إخفاء علامات الضيق والأسى وحاولت تقريب أهمية الأحداث والصورة لهن على طريقة "أكلت يوم أكل الثور الأبيض".
انتهى اللقاء ولم تنتهي وصلات الحيرة والأسى داخلي.. إلى متى يصرخون هناك ولا يسمعون سوى صدى أصواتهم تتردد بين الجدران المقصوفة والبنايات المخربة؟ أما نحن فلا نسمع لا صوت ولا صدى ولا أي شيء لا نسمع ولا نرى ولا نهتم. بالطبع هذه الشريحة تقابلها ملايين أخريات يتابعن الأمر عن اهتمام ولكن الأصوات مبحوحة وأغلال العجز هنا هي أساور المعصم.
لقد كتبت صحافة إسرائيل متعجبة عن نساء بيت حانون وعلى لسان القادة والمعلقين الإسرائيليين حيث وصفوهن ب "أسطورة التاريخ"، وها هو السياسي الإسرائيلي يوسى بيلين رئيس حركة "ميريتس" يؤكد أن موقف سيدات بيت حانون سيضفي المصداقية والاحترام على النضال الوطني الفلسطيني ويحذر من أنهن سيصبحن مثالا سيحرص الفلسطينيون والعرب والمسلمون في جميع أرجاء العالم على الإقتداء به. أما العسكري الجنرال زئيف شيف فقد تحدث عن نساء بيت حانون اللاتي صنعن تاريخا بإيمان كبير وعقيدة صلبة، بل ووصف ذلك بأنه عمل مهم وسيدرس في كتب التاريخ! هكذا الاهتمام لدى الكيان الصهيوني بما فعلته نساء بيت حانون إذا!
فأين هو موقع هؤلاء النسوة على خارطة مراكز البحوث والدراسات المعنية بشأن المرأة؟ ولمن نقيم بالأساس هذه الجمعيات والحركات والدورات والمقرات والميزانيات التي تحشد لصالح المرأة وباسم المرأة؟
ينقطع سيل التساؤلات داخلي فجأة وأستشعر دفء حضن غنمته من أم نضال" خنساء فلسطين وإحدى النائبات اللاتي فزن في انتخابات حماس في مارس الماضي.. هذه الحضن كان في القاهرة أثناء رحلتها العلاجية التي تمكنت وقتها من إجراء حوار صحفي معها وسألتها وأنا الأم ولست الصحفية: كيف جهزت ولدك وودعته ودفعته إلى عرين العدو؟ فردت ببراءة وتلقائية: يا بنتي أنا ربيته للجنة مش للدنيا!
خنقتني العبرات وحفر الحزن بداخلي مكانا عندما رأيت صورة أم نضال منذ أشهر قليلة وسط حطام بيتها الذي قصفته قوات الاحتلال.. آآآآآآآآآآه يا أم نضال منحتني حضنا دافئا وأنا في بلدي وأنت الآن بلا بيت.. بلا حضن.. ومنذ زمن بلا وطن!
وأعود مرة أخرى إلى بيت حانون فالعدو المهتم يتوقف كثيرا عند موقف نساء بيت حانون.. يدرسه.. يتعلم منه.. يغير خططه ويعدلها.
ليس هذا فحسب بل ولأنهم يؤمنون بالحرب من الـ"فوق" ويدركون أن الأمل في النصر لمن يملك الرمي من الأعلى أكبر، فإنهم لم يكتفون بالفعل باعتماد الـ"f 16”.. والـ "الزنانة" كما يسميها الفلسطينيون وغيرها من الأسلحة الجوية، وإنما اختاروا أيضا من الصيف "أمطاره" ومن الخريف "غيومه ".
وهكذا عدو لطيف لا يحرم الفلسطينيين من الاستمتاع بفصول السنة الأربع، فتارة "أمطار للصيف" ، وتارة "غيوم للخريف" ولم يبق سوى الشتاء الذي سيمهدون فيه للربيع.. ربيعهم بالطبع وليس ربيع الفلسطينيين.. فاللهم لطفك.
واقرأ أيضاً:
مدونات قهرستان: كل الكراسي في الكلوب / يا سنة سموكي!!