"ايديا في جيوبي وقلبي طرب، سارح في غربة بس مش مغترب، وحدي لكن ونسان وماشي كده، بابتعد ما اعرفش أو باقترب". بصوته النافذ شفافية، غنى محمد منير هذه الكلمات من رباعيات صلاح جاهين، يصحبه لحن عذب يبعث في النفس ذلك الشجن الذي يهدي الحكمة، ويطهر الروح.
قبل سنوات تزيد على العشرة بقليل كان الحديث عن الغربة قرين الحديث عن التدين، وكان الفكر الديني السائد يعتمد عزلة من نوع خاص، ويجد لها سندا دينيا في الأحاديث التي تحدثت عن الغربة، وفضل الغرباء المتمسكين بدينهم حال فساد الزمان، وتبتر هذه الأحاديث عن سياقاتها، لتجعل أساسا في تشكيل حياة (الملتزم)، تعمق فيه شعورا بالغربة النفسية، بل لا أبعد إن قلت شعورا بالاستعلاء على كل من يخالف القالب الأوحد للتدين المعتد به في ذلك الوقت.
وفي شريحة المراهقين تجد هذه الغربة أكثر ما تكون تعمقا، تبعا لطبيعة مرحلتهم العمرية، وأذكر أن أحد أفضل الأناشيد التي يطيب تردادها في تلك الأيام نشيد (غرباء)، وكان يذكي فينا شعورا بالانتماء والنضال في حياة هي دار شقاء لابد أن نظل فيها بنفسية المحارب لنقوى على اجتيازها إلى النعيم المقيم!
كان فكرا مراهقا كمراهقتنا، قاصرا كقصورنا، يفتقر النضج كافتقارنا إليه، يقولب الدين في قالب جامد، في عداء مبطن لجمال الحياة، وتناقض مفجع مع تقتضيه الشريعة من سعة ومرونة. وقد قرأت من قديم للمفكر المعاصر الشيخ محمد الغزالي -رحمه الله – كلاما عن فساد بعض أساليب الوعظ وكيف تنقل المستمعين لا سيما الشباب الصغار إلى العجز عن التواصل السلس مع الحياة بإيرادها استشهادات في غير موضعها بأحاديث نبوية أو كلام لبعض الصالحين في الصلة بالله عز وجل في مقامات لا يدركها إلا من تحقق بها، ولا يصح تعميم الحديث عنها.
وفي هذا السياق كان الحديث عن غربة التدين، ولكأنها هي الأصل في حياة المسلم، لا أنها شعور يعمق الصلة بالله، ولا يقطع الصلة بعباد الله أو يورث الجفاء بينهم، وغيبت الأحاديث التي تتحدث عن أن سمت المؤمن هو أنه يألف ويؤلف، وأنه لا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف، بل والآيات القطعية في ولاء المؤمنين لبعضهم البعض دون تمايز بين مراتب الإيمان إذ هي مما لا يطلع عليه إلا الله. وأصبحت ولكأنها مقصورة على أصحاب القالب الخاص في التدين.
وبدل أن تكون فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيلا للتواصل المنضبط بضوابط حسن الظن، واحترام الخصوصية الفردية في اختيار نمط الحياة المعاش وفقا للمساحات الظنية الواسعة في الشريعة، والموازنة الدقيقة بين احترام حق الفرد وحق المجتمع، نجد أن هذه الفريضة بسبب اقتحام العمل بها دون علم بأحكامها التفصيلية قد صارت سببا آخر من أسباب تعميق الغربة النفسية لدى أصحاب ذلك الفكر، بل وسبيلا إلى هدم القيم الأساسية التي جاء بها الدين تأكيدا لأخلاق الصدق والتواضع والرفق والإصلاح.
لم تتوارى ظلال هذا الفهم المبتسر لمعنى الغربة في بعض ما يطرح على الساحة الدينية اليوم، لكنها لم تعد وحدها السائدة، بل وانبثقت من ظلمتها أنوار المراجعة العاقلة التي لا تغفل قواعد الشريعة ومقاصدها.
وهل يدفع الفرد منا إلى الإسهام الحق في الإصلاح إلا نفسية متزنة متناغمة مع ذاتها، وتحسن التفاعل مع من حولها، يعطيها ما يعرض عليها من إحساس بالغربة، عمارا للقلب مع الله عز وجل، وهمة في العمل، زينتها الحكمة، ونبضها التسامح والرحمة. نبض تطيب النفس به،كما في مناجاة منير المغناة التي قدمت بها، أنسا بالله تعالى، وتبريا من نسبة القوة والعلم لسواه سبحانه، وسلاما مع النفس والحياة.
حرر في: يوم الاثنين : 21/1/1427هـ المـوافـق: 20/2/2006م
* نشرت في جريدة الحياة الطبعة السعودية في يوم السبت :25/2/2006م
واقرأ أيضاً:
السنة والشيعة ومفهوم الأمة الواحدة / في فقه المخالطة.. أسئلة حالية(1)