قصتي معه طويلة وعميقة ومتشابكة.. أعمق من حب، وأسمى من تقدير. هو رمز أتمثله كما يتمثله كل من يجب الحق، ويقف مقاتلاً وحيدا ً ضد المنطق المادي البسيط، وضد ما يسمى بتوازنات القوى، وضد اعتبارات الأرض، وعاجل الحياة. منارة هو، ودمه يرسم معالم الطرق إذا ما تاهت بمجاهد السبل.
تتزاحم المعاني في رأسي، وأنا أكتب الآن عن سيد شباب أهل الجنة، سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، نتاج التقاء الزهراء رضي الله عنها، وعلي إمام المتقين. قبل حرب تموز الأخيرة على لبنان كنت هناك في بيروت متزامناً مع عاشوراء، سيرة الحسين تملأ القنوات التي تنطلق من فضاءات شيعية، وما كان الحسين حين استشهد شيعياً ولا كان سنيا، كان حنيفاً مسلماً على خطى جده عليه أفضل صلاة وتسليم!! لم تكن الأمة قد انقسمت هذا الانقسام النكد بعد، ووعيت مصر وحدها الدرس، ولم تزل، ولكن أكثر الناس لا يفقهون.
لم أجد مصرياً إلا وهو عاشق لأهل البيت عليهم رضوان الله أجمعين، وليس العشق هنا مجرد تعظيم لمقامات، وشاهد قبر هنا أو هناك، إنما حب يملأ حنايا القلوب. حين عدت من بيروت ـتلك المرةـ كانت خطبة الجمعة في مسجد "مطار القاهرة" تحكي عن الحسين ومشهد مقتله، ولو أن أحداً أغمض عينيه لظن أننا في الضاحية الجنوبية ببيروت، أو كربلاء، أو النجف.
الفارق أن الخطيب كان يروي الفظائع دون تخاريف مغالاة، ولا اللعن السفيه مثل الذي يصدمني من بعض إخواننا الشيعة هنا وهناك!!
مصر وحدها تعي الأمر على حقيقته: انحياز كامل لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم دون أن يتحتم على هذا الانحياز والحب تمزيق للصفوف المنهكة أو لعن لمن أفاضوا إلى ما قدموا، أو الإغراق في كراهية صحابة آخرين كان لهم أيضا فضلهم وجهادهم!!
لا تفريط في حب آل البيت والتبرك بسيرتهم، بل والمبالغة في رفعهم إلى رتب تفوق إنسانية البشر أحيانا، ولكن بالوقت ذاته لا إفراط في التقديس يعمي عن حقائق أخرى في التاريخ أو الواقع أو مشاريع المستقبل. مصر وحدها تبدو محتفظة بتوازنها وحكمتها، وهي أرض التوازن والحكمة، حتى من قبل الإسلام، وإن كان أهلها ينسون أحيانا!!
والمتعجلون يقولون مصر شيعية القلب، سنية الظاهر والقالب، وبعض المندفعين المغامرين يحاولون الترويج فعلا لإغراق المصريين في دوامة المذهبية والطائفية، ومن يستجيب لهم إنما يفعل ذلك في أزمة فهم لذاته، أو فورة حماس يظنه حلا لمشكلاته النفسية، أو يظنه موقفا سياسيا وشخصيا جذريا، وهذا كله بعيد عن روح مصر الأصلية، ولكن من يعرف هذه الروح اليوم!!
حين كتب "عبد الرحمن الشرقاوي" جزأين: "الحسين ثائرا"، و"الحسين شهيدا"، وعرضت المسرحية الأولى والثانية في الستينات، وربما مطلع السبعينيات، لم يكن سوى معبرا عن هذه الروح المصرية المنحازة للحق دون تمزيق أو شطط أو غلو.
مؤخرا فاجأني موقف رجل أعرفه هو "صالح الورداني"، وهو كاتب وناشر لا ألقاه إلا قدرا، ودون ترتيب، ولكننا حين نلتقي لابد لنا من نقاش طويل، والورداني يبدو لي باحثا عن الحقيقة وسط مناخ لا يساعد على ذلك، وهو لا يحمل مالا كثيرا، ولا سيفا ولا خنجرا، ولا تحمله مرسيدس، ولا بي إم دبليو، إنما بسيط في ثيابه، ومسالم في حديثه. تاريخ صالح جدير بالمعرفة ومسيرته مثيرة للاهتمام والفضول، ولا يفتأ يفاجئ الناس بموافقه.
ومؤخرا قرأت أنه يتخذ موقفا جديدا بعد فترة انتمى فيها للجماعات الإسلامية، ثم فترة قال فيها أنه شيعي، ثم أعلن مؤخرا أنه خرج من هذا وذاك، وأنه سوف يهب ما تبقى من عمره للإسلام دون تقسيم، مع بقاء انحيازه إلى آل البيت حبا وتقديرا وموقفا، دون أن يتحتم على ذلك طائفية أو انحياز لقوم بعينهم، وأقصد هنا الشيعة بفرقهم الحالية!!
ماذا حدث، وماذا قال الناس تعليقا على موقف صالح؟! قراءة سريعة للتعليقات وردود الأفعال أصابتني بالأسى، وكدت أبكي على حال هذه الأمة المسكينة!! لقد غرق الناس في النتن حتى أدمنوه وأشربته نفوسهم وعقولهم وأرواحهم، وصارت العودة إلى الموقف الأصيل مستنكرة ومتهمة وملاحقة!!، رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف العصبية الجاهلية بالنتن، والتعصب للمذهب على حساب الحق. -وهو شائع بيننا ـ هو حمية جاهلية.. قوة واحدا، وأغلبنا يمارسه شيعة وسنة!!
بدت لي محنة "صالح" مثلما أي موقف غير نمطي أو غير تقليدي أو غير معتاد في وسط مناخ راكد أدمن الجمود والتنميط والكليشيهات وعبادة أصنام الأفكار والأشخاص والمبادئ بدلا من الفهم والنقد والمراجعة والتجديد والاجتهاد. هذا المناخ يجعلنا أمة تأكل نفسها، وتدفن كل أمل في مستقبل مختلف لها، أمة تعادي ذاتها، وتقضي على عوامل التصحيح والعافية فيها، وكأن الانقسام قدرنا، والتخلف نصيبنا، والغباء قائدنا، ونحن قطيع يصدق فيه قول أحمد مطر:
وما زالت وبعضها ببعضها يلوى
ولحمهـــــا بزيتهـــــا يشـــــوى
أو كما قال في رثاء ناجي العلي:
ماذا يضيرك أن تفارق أمة ليست سوى خطأ من الأخطاء
رمل تداخل بعضه في بعضه حتى استحال كصخرة صماء
لا الريح تدفعها إلى أعلـى ولا النار تـــــدفعها عن الإغفاء
وأكرر أنني أفتح الجراح لمداواتها، وأضغط على القيح ليسيل خارج الجسد، ونزيف الدم الفاسد صحةٌ للبدن. وحده "صالح" كان جسورا بحيث فعلها، وفي هذا الوقت بالذات، ولو كنت مكانه لفعلت مثله، ولكنني أصلا اخترت أن أكون في الموضع الذي اختاره اليوم لنفسه.. تقريبا.
لا أرى أن حبي للحسين يقتضي الانحياز للتهريج الذي يديره البعض باسمه، وتحت رايته، ويؤنسني هنا موقف أحد مشايخي ممن أعتز برأيه وعقله، وأحترم استقلاله ومواقفه، وهو فضيلة السيد محمد حسين فضل الله، ولا أرى أن إنكاري لنفس التهريج الذي ينكره فضل الله يقتضي بالضرورة أن أسكت على ظلم أو تهريج آخر جرى ويجري بالطعن في أعراض ومروءة ودين إخواننا الشيعة، هكذا بالجملة، ويؤنسني في هذا مواقف كثيرة لمشايخي مثل القرضاوي وغيره.
بل أرى أن معركة الحسين هي أن أكون مع العدل والحق والمظلوم، ضد الظلم والباطل والظالم مهما كان، وفي أي أرض وتحت أي شعار. انحيازي للحسين يجعلني اليوم باكيا غاضبا، وأحسبه لو كان شاهدا معنا لوقف اليوم في صف المقتول المظلوم من أهل العراق، رغم أن بعض القتلة يرفعون صوره ـرضي الله عنه- ويهتفون باسمه، وهم يقتلون، وهو منهم براء، ولقاؤنا في ساحة العدل أمام البارئ العدل المنتقم.
اللهم أنصف الحسين ممن يرتكبون باسمه الجرائم، ويريقون الدم وهم يهتفون يا حسين، ويزعمون الانتساب إليه، والانتقام له، وكذبوا وهو يرفعون راية مظلوم ليقتلوا مظلومين، اللهم اجعل دمه لعنة اليوم وغدا وإلى يوم الدين على القتلة.
اللهم إني أسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تبرم لهذه الأمة البائسة أمرًا رشدَا –فهي تحتاج إلى الرشد- يعزُّ فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك ويؤمر فيه بالمعروف -وقد صار منكرا- وينهى فيه عن المنكر –وقد صار الحاكم الآمر فينا.
اللهم إنه قد اختلطت على عبادك السبل، وعميت البصائر، واختلَّتِ العقولُ، وبدلا من أن يكفوا أيديهم ويقيموا الصلاة، فإنهم ينسون الصلاة، ويطلقون أيديهم قتلا وتنكيلا وغلا وانتقاما وتعصبا وجهلا.
اللهم إني عاجزٌ مثل الملايين عن نجدة أحبابنا أهل العراق جميعا، وهم محتاجون جميعا إلى من يهدئ روعهم ويذكرهم بوحدتهم، ويوقظُ رشدهم، ويضمد جراحهم، ويعالج فتنتهم، اللهم إنك تعلم قد انقطعت بنا الطريق إليهم، واستحال السفرُ لنكون بينهم، فأصلح أنت أحوالهم، واحقن يا ربُّ دماءهم وارفع البلاء عنهم.
اللهم بحق رسولك الكريم وآل بيته وصحابته وتابعيه وكل من تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، أسألك مسألة الذليل لعظمتك أن تغيث العراق، وأن تحميه من أبنائه ونزقهم وشططهم، أما أعداؤه فهو كفيل بهم.
اللهم لا تؤاخذنا بذنوبنا، ولا بما فعل السفهاءُ منا، واهدِ الظالمين أو خذهم ولا تفجع رسول الله في أمته أكثر من ذلك.
26/11/2006
واقرأ أيضاً:
على باب الله خارج الأصداف/ على باب الله: الإعلام، وصناعة تاريخ بديل2