منمنمات 4 (7 يونيو 2005)
حيرة كبيرة كانت تعتريني، ورأسي كانت تملؤه التساؤلات حول ما يعتمل داخلي وما يتشابك خارجي. أحبطتني الجامعة كثيرا من قاعات الدرس إلى ساحات التجمع الطلابي، أما الأهل فقد أنهكهم مشوار تأميننا ومحاولة التوازن أمام متطلبات لا تنتهي وهم -كبقايا الطبقة المتوسطة المصرية- يتمنون لأبنائهم الخير كله ولكن يخشون عليهم من التجربة فالشكل الاجتماعي قد تهدده نتائج التجربة والوضع المادي لا يسمح بمغامرات حقيقية.
الأصدقاء -على قلتهم- لا يملئون الفراغ فبداخلي كان هناك اهتمام -أو قل اغتمام- لأمر غير محدد عرفت فيما بعد أنني يمكن أن أطلق عليه "الهم العام"، هذا الاهتمام عززه إلى حد بعيد طريقتي الخاصة في التعامل مع همومي الشخصية الصغيرة إذ تيقنت مبكرا أن جانبا منها يتسرب عبر الانكفاء على ما هو أكبر وأعم.
وكنت قبل ذروة المشاهد السابقة قد جمعت سطورا بريئة –إلى حد السذاجة أحيانا- كتبتها وتوجهت بها لكاتبي المفضل/الأستاذ فهمي هويدي رغبة مني في أن أعرف إذا كان ما أحمل من سطور يمكن أن أبدأ به علاقة أكثر حميمية مع الكتابة. واستقبل أستاذي ما سطرت بخبرة ودودة وتشجيع لينقلني خطوة كبيرة وينصحني بحضور ومتابعة صالون د/عبد الوهاب المسيري والذي كان يقام -لحسن الطالع– حيث كنت أسكن بحي مصر الجديدة. صالون د/ المسيري منحني إحساسا بأنني أخترق عالما كنت أرقبه عن بعد يكتنفه قدر كبير من الرقي، استمتعت بمشاعر - كانت لاتزال مراهقة – بأنني أشارك في جو مجدٍ وسط من أقدر وأحترم، كانت تجربة ممتعة ومثيرة شاهدت عبرها واستمعت للكثير ولكن ظل التحدي الأساسي –رغم جو شائع من المرح الودود- ذلك الشعور بالعجز أمام ما يبدو مكتملا.. خطابات تكاد تكتمل ورموز قطعت شوطا كبيرا فيما ذهبت إليه.. إذن كانت خبرة تحتم علي أن أستجمع قدراتي وأشحذ أدواتي حتى أتمكن من الاستفادة بما أسمع وأشاهد وإلا بقيت تلك المسافة بيني وبين ما يدور في هذه الأجواء الجاذبة.
ولأن الله جل وعلا أراد بي خيرا لم تقف رحلتي في المشاهدة والاكتشاف عند هذا الحد، فمن صالون "المسيري" تعرفت على د/أحمد عبد الله.. كان يملك فيضا من الأفكار والخبرات وهو يتحدث عنها ويتواصل عبرها.. وقتها بدا لي يفكر وينتقد ويولد الاقتراحات في اللحظة ذاتها بما جعلني - لقلة الخبرة والمعرفة وبحكم هدوئي القلق – أعتبر استمرار التعرف عليه هو المغامرة بعينها، فشخصية بهذه الملامح تحرك الراكد المستقر من المفاهيم والأفكار التي اطمأن المرء لها حينا وتسبب ارتباكا حينما تحاصرك بعوامل تأخرك وتعثرك في فهم الأمور على حقيقتها..
كنت أملك وقتها رصيدا كبيرا من الحيرة وعدم الثقة بالنفس خلفتهما عوامل عمرية واجتماعية وشخصية ولكن سريعا ما تبددت مخاوفي حتى صرت لا أذكرها.. وجدتني أمام نموذج يخفي وراء تدفقه موقفا نفسيا هادئا فلا يتسرع في الحكم على الأفكار والبشر وهو في هذا يمهد لمن يتلمس طريقه أرضا ثابتة يقف عليها ويكتشف جديدها، وجاءت لحظة أعدها فارقة إذ بدأ حواري مع الدكتور أحمد لأكتشف معه جديد أفكاري وقدرتي على التواصل والنقاش كما لم أفعل من قبل..
حوار ممتد حتى الآن، أحيانا ما تعطله مجريات الأمور وحوادث الدهر لكنه لم يتوقف وأدعو الله ألا يتوقف، لقد شكل لي هذا الحوار الدائم مدخلا لعوالم عدة مازلت أتحرك في مداراتها وعبره عرفت طريقي إلى أبرزها.. إلى صالون الجنوب وبدا أن جانبا كبيرا مما كنت أبحث عنه يتجسد أمامي، وجوه ومشاركات قد تفصلك عنها جرأتها وتحديها للسائد الراكد لكنك سريعا ما تلحق بها إذا ما نجحت في فك شفرتها، وأعتقد أنني نجحت في فك تلك الشفرة على قلة متابعتي لجلسات الجنوب وعلى تواضع مشاركاتي التي غلب عليها الصمت ولم تقطعه أحيانا إلا أفكار وخواطر نطقها لساني من فرط ما تفاعلت داخلي.
جاء صالون الجنوب ليلقنني دروسا في تجاوز التصنيفات التقليدية التي حفل بها ذهني وليفتح آفاقا واسعة أمامي ينقلني من الشفاهي إلى البصري ومن الانتظام كفرد متلقٍ إلى التحول كفاعل يبدع أفكاراً وأساليباً للتنفيذ. كانت الجلسات تناقش التيارات السياسية والخطاب الديني بنفس الشغف الذي تتعرض فيه بالتقرير والنقد لفيلم سينمائي أو معرض فني، وبدأت رأسي تمتلأ من جديد بتساؤلات أخرى ولكنها تساؤلات أنارتها طرق تفكير جديدة، فالأبرز في صالون الجنوب أنه كان معنيا بتغيير مناهج وطرق التفكير لا الأفكار وبتكوين الفرد لينطلق حيث شاء لا حيث يشاء تنظيم أو تيار بعينه، وعبر تواجد غير منتظم في الصالون واستمرار حواري مع د/أحمد قبست من روح التجربة الكثير وصرت أكثر اهتماما بامتلاك أدوات للتكوين من مهارات وسفر واشتباك مع الاختيارات الأصعب وعدم الركون إلى المقولات السهلة.
وبدأ اختلافي السلبي الذي تحدثت عنه في بداية هذه السطور يتحول إلى اختلاف نشط ضمن جماعة من المختلفين نستأنس ببعضنا البعض ونواجه دورات الاحباط التي تنتاب بلادنا بعقل مفتوح ورغبة غير متشنجة في التغيير.
ومن الجنوب تآلفت أكثر مع مفاهيم العمل العام والمجتمع المدني، وتعرفت عبره على عدد من النقاط المضيئة (أفرادا وهيئات) التي تحمل هموما ولكنها تحولها لطاقة تسري هنا وهناك. ومن الجنوب واتكاءً على خبرته دفعني د/أحمد مرة أخرى إلى منطقة جديدة كانت هذه المرة للعمل في إسلام أون لاين. نت –الذي أتمنى يوما ما الكتابة عن تجربتي فيه تفصيلا - لتتشكل أهم ملامحي المهنية وأنحت أكثر فأكثر رؤيتي الشخصية وأنفتح جديا على مهام وتحركات أكثر سرعة وجدة.
إنني أنظر أحيانا لبعض الوجوه وأسمع بعض الكلمات التي تحمل حيرة تشبه حيرتي في مبتدئها وأشفق على هؤلاء الذين لم ينعموا بعد بحوار ممتد مع أخ أكبر -كما نعمت دائما بحواري مع د/ أحمد- أو باكتشاف عوالم جديدة عبر نافذة مثل صالون الجنوب تختصر السنين وتنضج الأفكار دون أن تغلق الطريق إلى تطويرها وأحيانا إلى تغييرها. إنني أتمنى في أعماقي أن تتعدد التجارب المماثلة وينطلق الحائرون أفرادا وجماعات يبحثون في رحلة شغوفة مخلصة عما يحرر نفوسهم وأفكارهم.
حتى الآن لم ينجح أهل الجنوب في تسجيل الخبرة التي نتجت عنه ورغم المحاولات المتكررة لجمع المتناثر وتفريغ المنشغلين لبعض الوقت إلا أن الأمر لم ينجح بعد، لقد مر صالون الجنوب بمراحل مختلفة من حيث الانقطاع والاستمرار.. عدد المشاركين.. وطبيعة الدور، وقد تحول صالون الجنوب مؤخرا من حلقة تتسع وتضيق بحسب عدد الحاضرين إلى منصة تنطلق منها أفكارا وعروضا وذلك بساقية الصاوي فيما يشبه اللقاء العام، ومهما اختلف أو اتفق معي آخرون حول جدوى التجربة ومدى تأثيرها فسأظل أنحاز لهؤلاء الذين وجدوا في الجنوب مأوى لحيرتهم ودرسا يتعلمون من خلاله النطق بأفكارهم وورشة لاكتساب المهارات ووقفة لإيقاظ الهمم، ويصاحب هذا الانحياز اعتراف بأنني توقفت وتلكأت كثيرا عن أن أحول ما اكتسبته عبر الجنوب وغيره إلى إنتاج يجسد الاختلاف الذي أتحدث عنه، وجاء تأخري هذا متمسحاً في الرغبة في الإجادة واستكمال ما نقص، كابحة رغبتي في أن أظهر مزيدا من العشق لمحبوبتي الكتابة - التي ما أفتئ أبدأ في ممارستها حتى أنقطع عنها- ولهذا فقد أستحق ما ينالني من انتقادات المكترثين لشأني، وقد تأتي هذه السطور تذكيرا بما قد فات وعودة بالفضل لأهله وهزة خفيفة تحرك راكد الأحلام والتطلعات وعلى الله قصد السبيل.
ويتبع >>>>>>: منمنمات6 بين كوبري تشاي وكوب الشاي
واقرأ أيضاً:
في بلد البنات / ما تلبسه المصريات أيوه هي فوضى