مما غفلت عنه أمة الإسلام درس تاريخها، والاعتبار من خطه البياني، والتعلم من ثرائه كما من مساحات أو فترات خوائه! ربما لا توجد أمة أجهل بالتاريخ من أمتنا بتاريخها، وتاريخ الأمم من حولها بالأحرى!!
ومن أخطر لحظات تاريخنا يوم أن فتح الله على المسلمين الأوائل ـبعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلمـ الأرض في مشارقها ومغاربها، وتوسعت رقعة بلدان الإسلام، ودخل فيه الأحمر والأصفر، والزكي والخبيث، وهكذا يفعل الناس مع المنتصرين: يقلدونهم ويسيرون في ركابهم، يفعلون ويقولون مثلهم، ومنهم من يفقه، ومنهم من يردد فقط، ثم تأتي الفتن الفردية أو الجماعية لتكشف أن القليل في هذه الكثرة هم من خلطوا الإيمان بلحمهم ودمهم وأعصابهم، وأن الباقين مجرد كتل بلا وعي ولا رشد، وحسابهم على الله هو أعلم بحالهم، وهو ما قد ينصلح إذا فقهوا.
بعد قتل الفاروق عمر ـ رضي الله عنه ـ ذهبت الخلافة إلى "عثمان بن عفان"، وكان رجلاً طيباً بشهادة الكثيرين، لم يكن في جرأة أو شدة عمر، والدولة التي تتوسع تحتاج إلى حزم وحسم وصراحة، ويبدو أن عثمان قد فكَّر أن أحد الحلول هو تقريب أهل الثقة من أقاربه، وممن يعرفهم، ويثق في سيرتهم، ولم تكد تجربة عثمان تستقر في الحكم حتى خاضت فيه الألسنة، ونهشته مجالس النميمة باسم الغيرة على مصلحة الإسلام، ومستقبل المسلمين، وبدلاً من أن يتفق المسلمون على نظام لتعيين الولاة ومحاسبتهم، وضبط الأمور في إدارة الأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بدلاً من هذا انشغل العامة بالخوض في الأعراض والسير، وانفتحت الفرصة للنفوس المريضة، وذوي العاهات الأخلاقية ممن لا يدركون، لأنه لم تدركهم تربية ضمير أو صقل تفكير!!
ووقف عثمان يوماً يعلق على هذه الظاهرة المؤسفة فقال كلاما نفيسا لو درسه المسلمون، وعملوا في ضوئه لما وصلوا إلى هذا المستنقع!! ومما قال عثمان:"........ إن لكل شي ء آفة, ولكل أمر عاهة, وإن آفة هذه الأمة, وعـاهة هذه النعمة عيابون طعانون يرونكم ما تحبون, ويسرون لكم ما تكرهون, مثل النعام يتبعون أول نـاعـق, أحب مواردهم إليهم البعيد.. ".
وربما لم ينتبه أحد إلى هذه الآفة فاستمرت واستمرت ليتصدَّر الهمَّازون واللمَّازون مجلس المسلمين، ويصبح للهمز واللمز، والقيل والقال، والخوض في الإعراض برامج وصحف، وفضائيات ومواقع، وصار لهذا الطعام النتن زبائنه فانتشرت مطاعمه!!
آخر العناوين الصحيفة تتحدث عن نجمة سهرت مع أمير في رأس السنة، وتسيل أحبار الجرائد تخوضي في عرضها، وتتفنن في تصور وتصوير ليلتها مع الأمير!! ووجدت نفسها مضطرة للدفاع عن نفسها، ثم للخروج من البلد!!
وتنتعش المجالس بأحاديث الفضيحة، وترقص قلوب البعض في صدورهم، ويشتد بأسهم، ويعلو صوتهم، ويتعاظم ظلمهم إذا كان الحديث عن الأعراض، وإذا كانت المادة المتداولة غيبة ونميمة وبهتان، فهي أكلة مفضلة، طازجة دوماً، وساخنة غالباً، والجو بارد، والخواء قاسي، والفشل يحاصر الناس، والملل يكاد يقتل النفوس، والمجالس متعطشة لمادة مثيرة، وكذلك صفحات الجرائد، وساعات البث، وكاميرا المحمول، وشاشات الحاسوب، وأشواق القطيع.
طقوس بدائية طوطمية جاهلية كما نرى في الأفلام، وكما روى لي مهندس بحري عن احتفال شاهده في دولة أفريقية حيث يجهزون قرباناً بشرياً يحملونه على عصا، ويدهنون جسده زبداً، وأصباغاً، ويرقصون حوله، وهو محمول إلى الشواء، ثم يأكلون جميعاً، ويمزمزون بغضارفيه ونخاعه وعظامه، أتأمل لو لم يذكرها القرآن صراحة!!: "أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً"، ومما تأثرت به في طفولتي تلك الرواية التي تذكر عن فلانة التي اشتكت ببطنها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر لها بوعاء، وطلب منها أن تتقيأ فإذا بالوعاء يمتلئ لحماً بشرياً، ودماءاً من القيء الذي أخرج ما في بطنها، إنه لحم من خاضت في أعراضهم وسيرتهم!!
ماذا لو لم يقلها رسول الله صلى الله عليه وسلم صراحة:"من تتبع عورة أخيه، فضحه الله ولو في عقر داره"، ولو لم ترد في الحديث القدسي:" يا عبادي إني حرمت على نفسي الظلم، وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا".
أنا غضبت عندما قرأت بالأمس خوضاً في سيرة الإخوان المسلمين، صحيح أنه خوضٌ في السياسة والرأي والإدارة لأفرادهم، ولعلاقتهم بالسلطة في مصر، ولكنني شعرت فيه بالطعن والعيب لصالح تصرفات فرعونية لا تريد لأحد أن يتنفس أو حتى يتململ!! لهجة المقال أنهم استهانوا بفرعونية النظام فعاقبهم!!
ضغط هذا على أعصابي العارية في مسألة الحرية التي تشغلني جداً، ورأيت فيه نوعاً من الخوض، ولكن من زاوية أخرى !! إذا كانت هذه هي حالتنا، وهكذا كان تاريخنا، أو عثرة من عثرته، فكيف ننتظر نصراً على عدو، أو نهضة من تخلف؟!
إذا كان طعامنا المفضَّل أعراض وأشلاء ودماء، وأحاديث مجالسنا طعان ولعان، وتتبع للعورات، وتلذذ بأكل لحوم البشر، وغيبتهم، والبهتان بضاعتنا، والنميمة تسليتنا!!
هل يتساءل البعض -ما زال- عن نزع البركة، وعن شيطنة النفوس، وكهربة الأحوال؟!
إن الأخطر من الطباخين هم أولئك الذين يأكلون الوليمة بآذانهم:"....... َبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ........(التوبة : من الآية47 )" اللهم ارحمنا.
واقرأ أيضًا:
في مديح المغاربة.... المصرية رائدة مشاركة/ على باب الله تأملات أندلسية