كان جوعا غريبا ذلك الذي داهمني صباح هذه الجمعة، كعادتي أكتفي في الصباح بكلِّ أو بعض ثمرة فاكهة، لكنني اليوم شعرت بذلك الجوع بعد الجلوس على شاشة مجانين وكانت الساعة تشير إلى العاشرة والنصف صباحا، حسنا أنا في وسط البلد الآن والأفران ومحلات بيع المأكولات غالبا تعمل معظم الوقت..... إذن سيكون من الممكن أن أشتري خبزا وطعاما، ولكن يا ترى أي طعام أشتريه يكون مأمونا... الجبن الأبيض في أسواق مصر المصونة هذه الأيام مشكوكٌ في سلامته بعد فضيحة إضافة مسحوق السيراميك الأبيض إليه، وصحيح أنه أعلن عن سحب الجبن المشكوك فيه من الأسواق ولكنني أعرف جيدا أن خسارة من قام بغش الجبن سيتم تلافيها ببعض الإكراميات لأي من الموظفين المكلفين بجمع الجبن المغشوش من الأسواق، وطبعا خسارة أرواح الناس أو صحة أجسادهم مسألة لا يلتفت إليها في مصر.... فليكن سأشتري غير الجبن الأبيض، لدي خيارات كثيرة.
أغلقت باب عيادتي ودلفت إلى الشارع بدأت بشراء الخبز، وحين مررت أمام محلٍّ لبيع الفول والطعمية شعرتُ بالحنين إلى أكل الطعمية..... دخلت ولم أكن قد حسبت الوقت اللازم لشراء الطعمية من محلًّ في الشارع.... والحقيقة أنها المرة الأولى التي أشتري فيها طعمية جاهزة للأكل مباشرة منذ زمان بعيدٍ ربما منذ أيام الكلية،.... عند بائع الطعمية يقف الناس وهم يشاهدون عملية القلي كاملة وينتظرون بالدور وغالبا دون الوقوف في طابور... على الأقل في الزقازيق، لم أكن بعد قد ميزت من من الموجودين سيأخذُ مني سعر ما سأشتري.... أخيرا رأيت أحدهم يقول بنصف جنيه عجينة لو سمحت..... هنا تذكرت أضرار الزيت مقطوع القلب حين تأكل مقليا فيه.... ولكنني قلت مرة كل عدة سنوات.... الله هو الستار،... أعطيته جنيها وقلت له بجنيه طعمية فنظر لي وأخذ ورقة النقد من يدي.... وبعدها اختفى هو وبقيت أراقب القلاء وهو يجمع حبات الطعمية على مصفاة كبيرة من السلك في يديه ويلقي بعجينات تحتها في الزيت، ثم توقف عن ذلك وبدا أنه يزيد من قوة النار.... ثم تركنا وانطلق لداخل المحل،... تساءل الواقفون بعد برهة أين هو؟.... أحدهم قال يبدو أن أنبوب الغاز على وشك النفاذ... وعلق آخر وربما لا يكون لديهم أنبوبا احتياطيا... وظللت محافظا على صمتي مسبحا في السر.
بعد قليل رأيت ذلك الذي أخذ مني النقود جالسا على مكتب من الواضح أنه مكان دفع الحساب... وسمعت أحدهم داخلا إليه يسأله... أو ربما كان يسأل الشرطي الواقف إلى جواري: "ما الذي يحصل هذه الأيام؟ يقولون فيه كلام كثير غير مضبوط يحصل، ما هي حكاية الدستور ولا تعديل الدستور"؟ ........ فانبرى الشرطي بلهجة العارف بواطن الأمور يقول: "الشعب لا ينفع معه غير كده.... يعني لما يكون بيه يرفض سماع الأوامر ويقول لي أو لغيري من الشرطة إنت عارف أنا مين؟.... الشعب ذا لا ينفع معه غير كده"...... ويقول آخر صحيح الأيام ذي الجاهلية رجعت والمظالم أصبحت لا ترد إلا أن يكون المظلوم سيدا أو ذا علاقة بأحد الأسياد"، وأردف آخر... نفسنا يجئ اليوم الذي يتساوى فيه الجميع ولا نسمع أحدهم يقول ألا تعرف أنا من؟".... وبعدها تابع صاحب السؤال... وهذا الوضع لم يكن على عهد المسلمين.... نعم كان عمر بن الخطاب لا يفرق في الحقِّ بين غني وفقير بما في ذلك ابنه........" شعرت من داخلي بأن الناس ملآنة كلام.... ولكنه كله كلام في كلام، وغالبا منقوص الفهم ومقطوع الهم.
أسعدني جدا ما يحدث رغم معرفتي بأنه يحتاج عقودا ربما ليثمر شيئا ذا بال، لكن علامات الحياة ما تزال موجودة في المصريين برغم انحطاطهم غير المسبوق على طول التاريخ، ولعلها بشرى بالخير،........ وشردت بذهني بعيدا متذكرا ما أرسل لي على عناوين بريدي الإليكتروني في الأيام القليلة الماضية من مقاطع فيديو وصور تثبت مقدار الورطة التي وجدت الحكومة نفسها فيها وكيف تصرفت، فقد تمت تغطية امتناع الشعب عن التصويت تماما وحدث في الاستفتاء ما كان يحدث من قبل من قيام أحد موظفي الدولة بالمهمة بدلا عن الناس، وها هي الصورة المرفقة هنا تبين جزءًا مما حدث قبل الاستفتاء...، وتساءلت بيني وبين نفسي نفس التساؤل الذي سأله ابن عبد الله عن ماذا قدمنا للناس الذين أحرجوا الحكومة فعلا في انتخابات مجلس الشعب الماضية، أولئك الذين أحرجوا الحكومة واضطروها إلى فعل ما فعلته من تشويه للدستور، ماذا قدمنا أو قدم غيرنا للناس... فعلا لم يشكرهم أحد ! فقط انتبهنا لممارسات الشرطة رغم أنها لم تكن جديدة ولا غير متوقعة بينما كانت وقفة الناس كذلك.
وأخيرا عاد القلاء ليخرج الطعمية من الزيت، وعندها وقف الجالس على المكتب وبدأ بتوزيع الطعمية حسب الدور، ورأيت عندها من يأخذ بجنيه ومن يأخذ بنصف جنيه، والحقيقة أنني وجدت من الأفضل أن أقلص طلبي إلى بنصف جنيه طعمية أولا لأن الكمية ستكون كافية وربما أكثر مما أحتاج رأفة بمعدتي وثانيا لأنني آمل أن يصيبني الدور من هذه الطاسة قبل أن تنتهي....... وبالفعل تم المراد وظفرت بخمسة أقراص طعمية بنصف جنيه -يا بلاش- وانطلقت حاملا معي الخبز والطعمية ولم تنقطع تأملاتي وذكرياتي.
آخر مرة كنت قد وقفت فيها عند بائع الطعمية كانت كما قلت أثناء سنوات الكلية وربما في السنة الثانية يعني سنة 1982.... وأتذكر أيامها كان حديث أي مجموعة من المصريين تنتظر في طابور الخبز أو الطعمية أو حتى عند الجمعية الاستهلاكية -أيام زمان- كان يدور إما عن الكرة والأهلي والزمالك أو عن الممثلين والمطربين أو عن أحد المسلسلات التليفزيونية إلخ.... ولا أدري هل معنى ذلك أنهم اليوم أصبحوا أكثر وعيا... أم أن فظاعة ما حدث في مصر هذه الأيام كان لابد أن ينبه الناس فعلا لا أدري الإجابة؟؟ فهل بين المجانين من يجيب؟
ويتبع>>>>>> : شيزلونج مجانين: عند الطعمجي مشاركة
اقرأ أيضاً:
أحتاج من يقرأ بشدة مشاركة6 / مقص السعدني: ربَّ أخٍ لم تلده أمك