.. سألتني المذيعة الطيبة عن كيف نربى أولادنا على "ثقافة السلام؟، استفسرت منها عما تعني بثقافة السلام؟ وما علاقتها بثقافة الحرب؟ أرتج عليها، ولم تقل لي أن هذا تكليف من رئيسها؟ اعتذرت، وأكدت لها أنني لست ضد السلام، كما أنني لست ضد الحرب، فقط علينا أن نحدد ما نريد مما نردده.
ثقافة السلام كما تسوّق لنا هي إيهام بأنها كل ما هو "ضد الحرب"، دون قيد أو شرط، حتى نوحي لأنفسنا، وبالتالي لأطفالنا، أن الحرب غير مطروحة أصلا، لأنها "عيب" (!!)، ثم قد نستدرك فنضيف: "إلا دفاعا عن النفس"، دون أن نؤكد أن هذا الدفاع ليس إلا حربا ضروسا.
بعد كل حرب، يتبين للجميع حجم الخراب والدمار والضحايا والآلام، فتتجه النية إلى العمل على الحيلولة دون الحرب التالية، فيتفقون على إنشاء هيئات للحفاظ على الأمن والسلام (وليس بالضرورة لترويج ما يسمى ثقافة السلام كما يحدث هذه الأيام)!! وهات يا عصبة الأمم، ثم هيئة الأمم، ثم مجلس الأمن (وعقبال "جماعة الأمم"، و"مجلس السلامة. بعد الحرب العالمية القادمة بالسلامة!!)، ثم تمر الأيام، ويثبت خداع وفشل كل ذلك من خلال غياب العدل الحقيقي، وتمادي التحيز السلطوي، ويعاد النص (الإسكريبت) من جديد.
بعد ما طرأ على العقل البشري من قدرات، وما حقق من علوم وتكنولوجيا، وبعد ما طرأ على الوعي البشري من بصيرة قادرة أكثر على رؤية الداخل من ناحية، واستشراف المستقبل من ناحية أخرى، أصبح للحرب معنى آخر، وللسلام معنى آخر، كما أصبح الاستقطاب بينهما، أقرب إلى مخلفات التاريخ.
الخيار المطروح على البشر الآن هو أن يفيقوا إلى أن حروب الإفناء لن تُبقى حتى على المنتصر، وأن الخداع بتبرير الخضوع والتسليم تحت لا فتة ما يسمى ثقافة السلام هو قتل لحيوية الصراع وجدل التطور بمحو الطرف الآخر.
البشر الحقيقيون يتقدمون حثيثا نحو احتواء طاقة العدوان ليحطموا بها القديم فيكون الإبداع، يتخلق السلامٌ الحقيقي حين تنبض الحياة بحيوية الصراع دون دمار أو إفناء. نحن لا نعيش الحياة نابضة زاخرة إلا حين نعيش حقيقة الموت ونتقبلها لتتفجر الحياة. هذه ليست قضايا نظرية، ولا هي قصيدة نثر، هذه هي النقلة التطورية المعروضة على البشرية مجتمعة بعد أن أتاحت ثورة التواصل لمجموع الناس -لأول مرة في التاريخ– أن يتواصلوا عبر الكرة الأرضية دون وصاية سلطوية جاثمة.
ثقافة السلام السلبي هي ضد ثقافة الحياة، تصور أن جسدا بشريا قرر أن يتخذ ثقافة السلام في مواجهة ما يغزوه من ميكروبات، أو تصور أن أهالي مجموعة من الأطفال اتخذوا موقفا سلميا ضد من يخطفون أطفالهم لاستعمالهم في دعارة الأطفال، هل يجوز أن نعـدّ جسمنا حتى يروض كراته البيضاء، فلا تفرز الأجسام المضادة لغزو الميكروبات؟ أو هل يجوز أن نواصل وعظ أهل الأطفال المخطوفين، لكي يمارسوا ضبط النفس ويتفرغوا لإنجاب أطفال جدد بدلا من الذين يُخطفون منهم، حرصا على ثقافة السلام؟!!
ثقافة الحروب المغيرة هي ثقافة التفوق الزائف للأقوى تكنولوجيا وأموالا وتدميرا، هي ثقافة الفناء للجميع. الأمور تتغير: لم يعد المنتصر -رجالا وعتادا- هو الأولى بالبقاء كما كان الأمر يبدو قديما حين كان التفوق الكمي، والقوة التكنولوجية هما المقياس الأول لأحقية التفوق. التقدم الإنساني الجاري رغما عن أساطير التاريخ وأوهام التحيز وبفضل التواصل المتمادي بين البشر: يعد بتعرية هذه اللعبة القذرة، حينذاك سوف يتبين المنتصر الظالم أنه يملك كل شيء إلا نفسه، وأنه لا يقف إلا على قمة هرم من الفراغ والعدم ضد الحياة، ضد نفسه. هذا الفراغ ينشأ ليس فقط من إبادة الأضعف، ولكن أساسا من تفريغ ذاته الداخلية من تاريخها، ومن شرف استمرارها بشرا يتطور.
علينا أن نتعلم من حربنا الشريفة الأخيرة هذه التي أفاقت أغلبنا أننا بشر نستحق أن نحيا مع البشر بكرامة تليق بتضيحاتنا أثناء الحرب، وبحروبنا أثناء السلام، نتعلم أن ثقافة الحياة لا تستبعد الحرب بكل غبائها ومضاعفاتها التي تضطرنا أحيانا إلى قتل من كنا نود ألا نجرح طرف إصبعه. الواقع المر يجعل الحرب الحقيقية بكل تشكيلاتها وتنويعاتها حتى أقبح صورها، جزءا لا يتجزأ من ثقافة الحياة.
ثقافة الحياة هي جدل حيوي نابض يستوعب الحرب متجاوزا الفناء والإبادة، لتتواصل الحياة إبداعا يقتحم الموت ليحتويه لا لينفيه، وسلاما يحتوي حربا نشطة متفجرة خلاقة، وليس سلاما يفرض عدما ماحيا فارغا مفرغا.
عن شيخنا حامد عمار (خطى اجتزناها 2006)، عن الشاعر ممدوح الشيخ، أنه قال:
"كأني منذ ابتداء الخليقة أقاتل"... "أقاتل من أجل ألا أقاتل"
اقرأ أيضا:
تعتعة سياسية: الجيوش الشكلية والشعوب المحاربة / تعتعة سياسية: الحرب هي الحرب! / تعتعة سياسية: الحرب والجدية والاستسهال