قال لي شقيقي: يبدو أن توقعاتك عن تركيا كانت صائبة، وأنه لا ينبغي الخوف على هذا البلد وأهله!!
جاءت كلماته بعد تصويت البرلمان لصالح الانتخاب المباشر لرئيس الجمهورية من جهة الشعب، بدلا من الاختيار البرلماني له ثم التصديق من الشعب كما كان يحصل.
وقال أيضا: لا أفهم كيف ترفض كتلة من النواب ترشيح عبد الله جُل نفسه للرئاسة، ثم يعودون للتصويت لصالح الانتخاب المباشر للرئيس، ألا يخشون أن يؤدي ذلك إلى انتخاب "جل" من جهة أغلبية الشعب هذه المرة؟!
قلت له: أغلبية البرلمان مع توسيع سيادة الشعب، وهو جوهر الديمقراطية، بينما في ذات الوقت كتلة كبرى برلمانية هي ضد انتخاب رئيس من حزب العدالة والتنمية، وهذا شيء، وذاك شيء آخر!!
الالتباسات التي تحيط بفهم التجربة التركية ليست مقتصرة على شقيقي، بل أكاد أجزم أن أغلبيتنا لا تفهم التفاصيل، وبالتالي لا تهتم بتجربة هي في غاية الأهمية بالنسبة لكل العرب والمسلمين، أو كما يبدو البعض غير مكترثين بما يحصل للحاضرة الأخيرة للخلافة الإسلامية!! وهذا من ضروب العجب في حياتنا، وهي كثيرة!!
مازال البعض متوقفا في نظرته لتركيا عند لحظة أتاتورك "الذي أجرى جراحة بتر لفصل تركيا عن منبتها الشرقي، والذي أعطى ظهره للعالم الإسلامي، وللحرف العربي، وأسس لعلمانية محروسة بالسلاح، ممجدا كل ما هو "أوربي"!! وأنا أنقل هنا عن أحدهم ولا يذكر أحد: في أي سياق فعل أتاتورك هذا؟!
في الحقيقة أن أتاتورك قد دفن جثة رجل مريض متوفى، أو مارس مع الخلافة التي كانت قد ضعفت فعلا، وقاربت على الموت ضربا من "الموت الرحيم"، ولم يكن هو الذي أضعفها بالتأكيد!!
إنما وجد أتاتورك نفسه يحمل تركة وثقلا وإرثا يمتلئ بالثارات والأحقاد على خلافة ملئت الدنيا، وشغلت الناس، واكتسبت خصوما كانت قوتهم صاعدة وتزداد في العالم الحديث آنذاك، وأراد أتاتورك أن يخلع عنه هذه العباءة التي تثقل كاهل تركيا، وأن يرتدي البذلة والقبعة، فيتخلص من أعباء أممية لا تطيق بلاده النهوض بمسئولياتها لصالح قطرية وعنصرية لبلد أراد له التقدم والتحديث على النمط الذي كان سائدا حين ذاك، وهو النمط الأوربي، وفعل هو ذلك بطريقة ساذجة ومتعسفة حاولت قسرا أن تتجاوز كل الماضي بحلوه ومره، بخيره وشره، وتقفز إلى مساحات جديدة تماما بشكل قهري وفوقي لا يرتكز على قبول الناس بالتحولات، ومساهمتهم فيها!!
وفي محاولاته تلك فصل الإسلام عن الدولة التركية ومؤسساتها، فذهب الإسلام إلى الناس حيث تلقفوه، وعاشوا به مستمرين في تشييد وبناء المؤسسات الأمة من أوقاف ومدارس، وعلوم وفنون وآداب وربما حاول أتاتورك أن يتدخل في هذه الحركة أو العملية ليفسدها، ولكنه بالطبع فشل في تحدي إرادات الناس، وفي ملاحقة حركة الملايين، لأن هذا مستحيل، ليس فقط لأن غالب هذه التحركات كان شبه سري، ولكن أيضا لأنه كان سلميا ومدنيا ومتنوعا، وبعيدا كل البعد عن السياسة والدولة ومؤسساتها!
وتطورت خطوات أتاتورك وعلمانيته، وارتخت قبضته، بل وظهرت أصوات معارضة له من داخل تجربته، فصار لابد من مساحة للمعارضة، ولابد من ديمقراطية سياسية متدرجة، ولابد من دور للجيش كمؤسسة حاكمة وحامية للمبادئ الكمالية "كما يسمونها"، ولم يكن الإسلام بعيدا عن هذا كله، ولا غافلا ولا كسولا، بل كان يتطور عبر حياة الناس وينمو ويتنامى في الصدور والتكايا، في مدارس الوعاظ، وحلقات الإنشاد والذكر، وفي أخلاق الصبية، وفي أجيال وراء أجيال ترتدي القبعة والبذلة الإفرنجية، ولكن ضميرها وهويتها، وأحلام يقظتها ومنامها، ومكتبات بيوتها، وسراديب لقاءات الناس فيها عامرة بكتاب الله، ومتمحورة مثل رقص المولوية الرائع حول نقطة ارتكاز واحدة هي: لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
وبدلا من أن ينفجر هذا مثلما حدث في بلدان أخرى، فإن الطابع السلمي المدني المتنوع والمتسامح والمتأمل بعمق مثل: بديع الزمان النورسي، ورسائل النور!!
هذا الطابع فتح في جدران الكماليات الصخرية ثقوبا متوالية، وصار يتدفق منها مثل نبع أو ينابيع صافية رقراقة عذبة.
وتفاعلت العلمانية الكمالية، وتدافعت مع هذه الينابيع كلها عبر عمليات شديدة التعقيد والتركيب لتنتج ما عليه تركيا اليوم، ومن ما زالوا يرون تركيا (أتاتورك مثل من لا يرون إلا تركيا) جماعات النور "التي انقسمت وتعددت"، والسليمانية، وغيرهم من أطياف الإسلام وتنوعاته في تركيا!!
بينما تركيا خبرة مركبة ومتطورة وناضجة ومتحدية، ولأن أغلبنا يراها بعيون التسطيح الذي اعتدناه، والكسل العقلي والمنهجي، فغالبا يندفع إلى إصدار أحكام غير دقيقة!!
أدعو لتركيا والأتراك، وقد أحببتهم حين زرت اسطنبول مرة وأخرى وثالثة، أدعو الله أن يحفظهم، ويحفظ تطور خبرتهم من كل سوء، ومن المتربعين، وهم كثير!!
ولا أعتبر ولا أعتقد أن هناك تجربة إنسانية مثالية، ولكن الخبرة التركية ضوء هام، وقائمة أسئلة ضرورية لمن يريد أن يكون جادا بشأن نهضة أو تقدم أو تحرر لنا.
هل يمكن إنجاز مسار متطور للتمدين أو للتحديث بشكل طوعي، ودون بتر أو ترقيع؟!
هل يمكن أن تحمله الأمة الإسلامية وتعيشه حقيقة وبجدية، وبأقل قدر من النفاق الاجتماعي، والشكلاني، والسذاجة، بدون تحديات عميقة، ومبادرات جريئة، وتدافع بين قوى حقيقية، ومناظرات، وفقه، وصندوق انتخابات شفاف؟!
هل يمكن أن يبقى الجيش رقما هاما في معادلة السلطة، ولكن في وجود فاعلين آخرين لكل منهم دوره ومكانه ومكانته؟!
وهل يمكن أن يتم هذا كله في عزلة عن سؤال الموقف من العصر ومن العالم بالتفاعل أو محاولة الاندماج، مقابل أشكال ودرجات أخرى للتأثير والتأثر؟!
عشرات الأسئلة تندفع من التجربة التركية الموحية الملهمة لكل صاحب رأي وعقل يبغي رفعة الأوطان بهدي الأديان!!
العلاقة بين السلطة والمجتمع، بين الدين والسياسة، وبين المسلمين والعالم والزمان الآن!!
موائد التحليل ينبغي بسطها لتحليل ومراجعة تجاربنا من طالبان إلى أوردوغان، والمجد للإنسان.
واقرأ أيضًا:
على باب الله: أحوالنا/ على باب الله: ما العمل