قد يمشي المرء وحده، أو يجلس وحده، وقد يردد: الوحدة خير من جليس السوء، وقد يتورط في مجالسة ما يعرف، أو يكتشف بعد حين أنه أسوأ بكثير من الوحدة، وقد يقرر بعدها الوحدة، أو يبحث عن جليس نافع أو ممتع لا يحرق ثيابه، ولا يجد منه ريحا خبيثة!!
قرأت لأحدهم يقول: كلما نضجت وزادت خبراتي وتجارتي لا أجد لي مكانا وسط الأغلبية، ولم يقل هل يزعجه هذا أم لا؟!! أثنيت على اختيارها، وهي تذيل كل رسائلها الاليكترونية بالآية: (وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) (المزّمِّل:10)، ومن رحمة الله تعالي بعبده أن يطلب الهجر الجميل، بينما لو طلب الصبر الجميل لأصبح لازما كتمان الشكوى مطلقا، وكبت الاستياء!!
إنهم سيقولون دائما، ولا مناص من الصبر، ومن الهجر الجميل، فكيف يتعرف الإنسان على الخير والشر جيدا ثم ينحاز للحق، ولو كان في جانبه وحده؟! وكيف يصبر بعد ذلك على ما يقولون، وكيف يعرف الهجر الجميل فيمارسه؟
كيف تكون له في الحياة وجهة نظر ويسير؟ وكيف يراجع خطواته كلما وجد خللا أو وجد من البشر كتلا تلتف حوله، وهو ينكر طباعهم، وقد يتهم عقولهم، ولا يطمئن لأخلاقهم؟! كيف لا ينتفخ ويغير بالكثرة، وكيف لا ينزعج من الوحدة؟!
كيف يتخفف من طلب المديح؟! ويرد على أحجار الحاقدين والسفهاء والكارهين بالصبر وبالهجر الجميل؟! وقد يلتف فيعطي زهورا وثمارا لمن يقذفه بالكلمات الجارحة، أو الأوصاف السيئة، أو البهتان الرذيل؟!
كيف يحافظ علي توازنه وسط هذا كله، ولا يفقد صوابه ولا رؤيته ولا تذوقه للجمال، وحرصه على إشاعة الخير، ومناصره الحق، ولو كان منفردا؟! كيف لا يستوحش إذا وجد مقعده بعيدا عن الزحام والضجيج: يجلس وحده، ثم يمشي وحده؟! أليس هذا هو التحدي الذي واجه الأنبياء والعلماء والمخترعين، ويواجه المبدعين بالكلمة، واللون في الضوء والظل؟!
وقفت أمام اللوحات متأملا ومضيعا فقد كانت تحكي وتبوح، كانت تبدو حيه نابضة بما فيها من شجن وتعبير رغم سكونها!! ليست الوحدة بالضرورة حزنا ولا بؤسا، وليس الصمت اكتئابا كلما حل، وليس البطء عيبا دائما، إنما هي حالات نعيشها، وفي اللوحات ألفة وإيناس تعكسها الألوان والأوضاع والتراكيب، فهاتان طفلتان تجلسان على مجرى ماء ضيق متلامسان وتتناجيان، وصورتهما تنعكس فوق صفحة الماء مزدهرة كأشباح سعيدة تتراقص في خشوع ودفء وضوء.
وهذا عازف يحتضن عوده منكفئا عليه وكأنه يهمس أو يستمع لهمس!! وتلك تطل من شرفة ممسكة بعصا الكمان، وآخر يضع كفه على خده مثلما تتكئ أخرى بذقنها على كفها مستندة إلى حلق المدخل، وذاك العازف الذي أعطى ظهره للعالم، وجلس القرفصاء ليعزف نافخا غيظه، أو ليبث الناي نجواه أو شكواه!!
ربما في الوحدة ننتظر شيئا أو أحدا، أو ربما نسرح في الملكوت، أو نشاهد مرور الزمن، وربما نتذكر بعض ما كان، وفي كل الأحوال قد تكون الوحدة فرصة ذهبية للاستمتاع بالذات، أو مناجاة طيف الحبيب، أو ذكر الله خاليا، بعيدا عن الخلق.
استخدام الألوان الداكنة في الخلفية ساعد على توصيل الحالة، وسمح للعين بالتقاط تفاصيل النظرات والقسمات والإيماءات. لمن يرسم الفنان التشكيلي حاليا؟! ولمن يقيم المعارض؟! لنفسه؟! للرياح؟! لعابري السبيل أم بعض الأصدقاء والمعارف؟! عمن يبحث شادي الحي، أو عازف الناي؟! لمن يشدو البلبل بلغة الحب، وتقاسيم الأمل؟! وسط الضوضاء والفوضى والتشويه ليس سوى ضجيج وتلوث ولاهثين سكارى، وما هم بسكارى!!
قال محدثي: لم أزل مطلوبا للحفل تلو الآخر، بعض الناس تحب الطرب!! قلت : أتمنى هذا وأكثر!! ربما لا يوجد أمامنا اختيار غير المواصلة في درب الحب والحرية والحق والجمال! وربما يبدأ الانحياز للحق بالتعرف على الجمال وتذوقه، وتمييزه عن القبح والشر والبشاعة!! وإشعاع الضوء يبدأ بصيصا ثم ينتشر!! ربما نحتاج إلى أن نحمل ريشه لنرسم في كل زاوية، نلون العالم بألوان الحياة في مواجهة الموت، ونعزف ونغنى أطايب الكلمات، وأجمل الألحان في كل اجتماع ومجلس، وفي كل وقت وحين!
معركتنا لاستعادة الجمال والشعور بالجمال هي مثل معركتنا لانتزاع الحرية، والبحث عن الحب بمعانيه وتنويعاته، ومناصرة الحق بتجلياته!! كلها معارك حياة أو موت لمن ينشر خيرا، أو يبدع جمالا، ولنا نحن الذين ينبغي أن ندخل في نفس العملية الإنتاجية!! نغرس خضرة فتمتلئ الآفاق بالحياة: ونتدفق عطاءا وعذوبة فنطرد الكراهية، ونكسر القيود، ونتحرر مما يخنق أنفاسنا، ويحيط بنا ويحبسنا، ربما نحتاج إلى أن ننهمك أفرادا وجماعات، وأن نواصل دون توقف، وأن نكف عن انتظار أن يصدر الخير أو الصوت أو الحب عن غيرنا!! ربما الحل بداخلنا، بينما ننظر حولنا وننتظر، فلنجرب ونتذوق العزف المنفرد.
واقرأ أيضًا:
على باب الله: ملكة جمال مصر أغلبنا يشارك/ على باب الله: حزب خربانة