بعد السؤال على الأحوال والأنجال، ومحاولة اختصار الزمان في كلمات، قالت: أجري تحقيقا للجريدة الجديدة أحاول فهم وتحليل ظاهرة انتشار النقاب، فما رأيك؟!
قلت لها: لا يصلح الحديث في الهاتف لأنه موضوع هام وعندي فيه كلام كثيرة أرى في نفسي قدرة على اختصاره، ولا نفعا للقارئ ولا للحقيقة، فلماذا لا تزورين العيادة ونتكلم؟!
وتقابلنا في العيادة حيث دخلت تشيعها نظرات الحسرة في عيون السيدة التي تساعدني هناك، قالت مساعدتي بسرعة وذكاء المصريين: ما بلاش حكاية الصحافة دي، دول شؤوم، اليوم اللي بييجوا فيه لا يحضر أحد من المرضى!! ابتسمت من الربط بين هذا وذاك، وهو ما يجري يوميا في عقول أغلبنا، وهو ما سأتناوله غدا في حوار تلفزيوني عن التفاؤل والتشاؤم!!
قالت الصحفية: أرى في النقاب تمردا على الواقع بالهجرة إلى الآخرة، وقالت أنها سألت عددا كبيرا من المنقيات عن سر ارتداء النقاب، وعددت لي أشكاله وأنواعه، بل وأسعاره، وأعربت عن دهشتها عن الأسباب التي تدفع امرأة إلى حبس نفسها في هذا السواد ـعلى حد تعبيرهاـ وبالتدريج بدأت الدهشة تزول حتى كانت آخر كلماتنا في الحوار: السؤال الصحيح هو لماذا ترفض بعض النساء ارتداء النقاب؟ وليس العكس!!
هذه النتيجة ظهرت بعد ساعتين من الحوار، وهنا بعضه. قلت لها أن الأسباب تتنوع وتتشابك فمنها أن المنتقبة التي تخرج وسط الناس تحظى بحيز مكاني أوسع، تلقائيا يبتعد الرجال عنها مسافة أكبر، ووسط زحام مدينة مكتظة مثل القاهرة فإن هذه السعة لا تقدر بمال!!
وقلت لأن للإسلام صورة مثالية نموذجية متخيلة في عقول الناس، وتطبيق الإسلام في تفكير أغلبنا يمر بمراحل وخطوات وصولا إلى تحقيق هذه الصورة المثالية المتخيلة لبشر هم أقرب إلى الملائكة، وحياة خالية من الاحتياجات المادية، والمنغصات بأنواعها، ترفرف عليها السعادة والرضا... إلخ ما يعشش في الأذهان من تصورات وهمية عن الحياة الإسلامية، وهذا بعض حصاد خطابات الوعظ العقيمة في أغلبها!!
النقاب هو بعض من هذه الصورة المثالية المتخيلة، بل هو قمة من قمم الالتزام، والأخذ بالعزائم في التقرب إلى الله، ومرة أخرى تبدو تلك مجموعة من التصورات الذهنية التي لا تستند إلى عقل، ولا إلى نقل موثوق، وما أعمق ما قيل حول هذه النقطة خلاصة وحسما للخلاف حول النقاب من أنه: لا جريمة في كشف وجه المرأة، ولا عزيمة في تغطيته، وهذا بخلاف ما يشيع بين الناس لأسباب يمكن فهمها، وسيأتي ذكر بعضها.
إذن: المرأة تقول لنفسها: لم لا؟! أتقرب إلى الله، وأكون مؤمنة نموذجية، ولو في جانب من الجوانب، وتدخل في حوار وأحيانا صراع نفسي واجتماعي، وتتنازعها مشاعر متناقضة، وقد يرفض من حولها، أو يفرضون النقاب، وتتصاعد التشابكات بداخلها حول مسألة هي في أصلها فرعية جدا، ووزنها النسبي في الأصل، أقصد أصل الدين، وزنها خفيف، ولكنها تتحول إلى ما يقترب من مسائل الاعتقاد، وأساسيات العبادات، وجواهر الإيمان، والخلل في تحديد الأوزان النسبية للأوامر والنواهي، والخلط بين ما هو عقيدة ثابتة، أو عبادة مركزية، وما هو أمر من فروع المسائل، هذه كلها تبدو من أعراض الجهل بالدين، ووهن الالتزام بالحلال، والتجافي عن الحرام، كما يقول شيخي محمد الغزالي رحمة الله!!
ودور التحليل الاجتماعي والنفسي والثقافي أن يكشف أسباب حصول هذا الخلل في تحديد الأوزان!! ومسألة الجسد وأحواله وأغطيته أو تعريته صارت هاجسا مركزيا في عالم اليوم فمن العولمة التي تتحدث لغة الصورة، والصورة جسد أساسا، ومن الحرمان الجنسي الذي يعاني منه أغلبنا، وإلى النظرة التي ترى جسد المرأة ليس سوى فتنة متحركة، ووصمة، وغواية، وذنوب تسير على قدمين، وفي غياب الحريات جميعا تتقلص مساحة ممارسة الحرية لتصبح في تعرية الجسد أو تغطيته!!
وفي غياب الاهتمام بالعقل والروح والنفس، وتنمية بقية جوانب وتجليات الوجود الإنساني ينتصب الجسد بوصفه التجلي الأهم، والمحور الرئيسي لشعور الإنسان بذاته، وفي الجسد تبدو الأزياء تغطية وتعرية هي النشاط والمادة الأهم، فلا رياضة تنتشر ولا غذاء صحي ولا نشاط جنسي مشبع!!
مسألة الزي بهذا التخطيط والتحليل والتصنيف والتوصيف تبدو هي الوجود كله بالنسبة للمرأة العربية، ولذلك يبدو سؤال التعرية وخرائطها ومستلزماتها، أو التغطية بألوانها ومساحاتها، وجدلها ومشاعرها، يبدو هذا السؤال هو الأهم واقعيا في حياة كل امرأة عربية، وذلك في غياب بقية الجوانب أو الأسئلة!!
مسكين هو هذا الجسد المحدود الذي يتحمل كل هذه الأعباء، ويكون مساحة حرية أو تمرد، مساحة التقوى والتقرب إلى الله، ومساحة إعلان التحدي والمواجهة والخلاف مع الناس أو مع السلطة!!
مساحة الشعور بممارسة الاختيار، وأن للمرأة كرامة ووجودا جديرا بالاحترام والانتباه والاهتمام، وكأن المرأة تصبح حاضرة وفاعلة وأساسية فقط بجسدها وجمالها، وهي تختار أن تبرزه جواز مرور إلى النجاح، أو تستره درءا للفتنة، ودمتم!!!! ما أروعنا!!
جلسنا نتحاور ونراجع ونتبادل الشواهد والحكايات لتأكيد هذه الفكرة أو تلك، واتفقنا أن لكل منقبة حريتها، وأن لهن حق في اتخاذ مثل هذا القرار في هذه الظروف الحالية، ولكن هذا لا يبدو حلا لأية مشكلة!
واقرأ أيضًا:
على باب الله: حزب خربانة/ على باب الله: قارئه متفاعلة.. وردود متأخرة