لن يكون الفصل الأخير في معارك الفتوى التي تشتعل بين الحين والآخر ما يدور حاليا عن إرضاع الكبير، أو ما سبقه عن "العرفي"، وليست لدينا حتى الآن شجاعة العقل النقدي أو المنهج العلمي، أو المناخ الحواري الذي يسمح بمناقشات تنفع الناس، وتفهم مفارقات الحياة، وتقترح الحلول الممكنة للمشكلات الطاحنة التي تسحق ملايين البشر في عالمنا العربي المسكين!!
وفتوى إرضاع الموظفة لزميلها على غرابتها وطرافتها لا تخلو من دلالة نفسية واجتماعية باتجاه التعامل مع تواجد المرأة في أماكن عملها، ولفترات طويلة، وما يستشعره الناس من حرج على خلفية الكلام الشائع والمتداول عن حرمة الاختلاط، فتخيل الدكتور صاحب الفتوى أن "الرضاعة هي الحل"، والملفت هو ردود الأفعال التي تراوحت بين الاستنكار والتهكم، "التنكيت والتبكيت"، دون محاولة للفهم، أو انتهاز الفرصة لفتح حوار جاد حول قضايا كثيرة بمناسبة صدور هذه الفتوى!!
نفس الشيء في الجدل الذي يعلو ثم يخفت عن أنواع الزواج، والذي يتصور البعض أنه مستحدث، وهو ليس كذلك غالبا، وبدلا من مناقشة معضلات الزواج في أوطاننا، تخرج علينا زاعقة، أو يصرخ أشخاص قلقون ومتوترون، أو تتحرك الأكاديميا فتلد الفئران الصغيرة المشوهة المسماة بالدراسات، وما هي كذلك، وقصة أو محنة الأكاديميا عندنا قصتها تطول!!
ومن بؤس حالنا، وفقر وفكرنا أننا –إلى جانب التنكيت والتبكيت- غالبا ما نتورط في الانطلاق من النص الشرعي وحده، أو الاجتهادات الفقهية عبر الزمان والمكان في قضية ما، مع إسقاط للسياقات سواء تلك التي تعين على فهم النص نفسه، أو تلك التي تشرح لماذا جاء الموقف الفقهي هكذا في زمانه ومكانه وظروفه، وعلى النقيض ينطلق الأكاديميون غالبا من مرجعيات منهجية مستوردة لا تفيد كثيرا في تحليل الظاهرة!!
كنت أستمع لرد فضيلة مفتي الجمهورية على سؤال عن زواج المتعة، وكان فضيلته يشرح أننا لم نفهم بعد لماذا كان موقف الشافعي –رحمه الله- والمفتي شافعي المذهب، وإن كان منفتحا على غيره، وأحيانا رأيته يفتي بحسب ما تتطلبه الحالة، ولو من خارج دائرة الآراء الشافعية تماما.
المفتي قال ينبغي أن نفهم أن موقف الشافعي مثلا من زواج المتعة لا ينفصل عن عصره، فلم يكن هناك أي داع منطقي، أو ظرف اضطراري موضعي –بحسب الشافعي يدعو إلى تفعيل الرأي القديم القائل بزواج المتعة بينما يمكن أن يختلف الأمر في سياق يكون فيه هذا الزواج هو أفضل المطروح أو المتاح والممكن، وهكذا –كما أفهم- فإن استنباط الأحكام، وإصدار الفتاوى ليس أمرا متعلقا بحفظ النصوص، وإعادة ترديدها، كما يفعل البعض ممن يظنون أنفسهم علماء وممن ينصت له الناس، وقد يسيرون وراء كلامهم!!
النظر الفقهي أوسع وأعمق وأعقد من هذا ولكن أكثر الناس لا يعلمون!!
وعموم مسلمي القرن الواحد وعشرين لا يستوعبون بديهية نظرية وتاريخية ثابتة، وهي أن الآراء الفقهية يمكن أن تتعدد، وأن هذا ليس دليلا على تناقض الدين بل هو من علامات سعة الدين والدنيا، ولأسباب متراكمة صار الناس يشعرون بالبلبلة حين يسمعون رأيا يبدو لأذواقهم غريبا، أو على أسماعهم جديدا أو مخالفا للسائد أو الشائع، وفي هذا المناخ من الجمود يستحيل أن نتوقع مستقبلا أفضل تقوده حركة التجديد الفقهي في وسط جماهير فكرتها عن الدين مثالية جامدة ومشوهة، أو ناقصة وغائمة في آن واحد، ومن يملكون أدوات طح أفكار وآراء جديدة، وبخاصة داخل المؤسسات الدينية يخشون غضب الجموع، والنتيجة أننا جميعا نقبع في انتظار تغييرات جذرية تحصن في الواقع حتى يتحرك الفقه عندئذ -بحرية- ليلاحق التداعيات والثمار، في هذا بعض الترقيع والتلفيق أحيانا، وهو مختلف عن حالة أن يقود الفقه حركة الإصلاح في المجتمع، وليس الخلل في غياب الفقيه القادر على استيعاب تضاريس الواقع بقدر غياب الشجاعة والجسارة على اقتحام القضايا، وتحمل التنكيت والتبكيت ولأنه لا كهنوت في الإسلام، فإن البعض من خارج المؤسسة الرسمية يتجاسر أكثر على الاجتهاد، ولكنني لا أعرف هل يؤخذ اجتهاده هذا على محمل الجد أم ماذا؟!
وحين أصدر أحدهم مؤخرا كتاب: "الزواج العرفي.. حلال.. حلال"، ثار الجدل من جديد ما بين صارخ بالرفض أو بالقبول، والناس لا تفهم ولا تستوعب شيئا من أصول المسألة لا في النصوص ولا في تضاريس الواقع، ثم ينسى الأمر بعد حين دون أن ينحسر الجدل.. أي جدل!!
كل ما حصل أن فتوى صدرت عن المفتي بدا موائمة بين الرافضين والموافقين، ويبدو أنها أنصفت صاحب الكتاب علي النحو الذي دفع إحدى دور النشر الرسمية علي إصدار طبعة جديدة من الكتاب بعنوان: الزواج العرفي حلال بشروط!!
ضاق وقتي من ملاحقة التفاصيل، ولم يصلني أن أحدا يتتبع أية قضية ما حتى يصل فيها مع التطورات إلى شيء، حتى صرت أعتقد أن فكرة ومفهوم الجدية نفسها غائبة، وأن القضايا مجرد بالونات ملونة نلعب بها لفترة، ثم نمل منها بعد قليل، وأن المناقشات هي مجرد "طق حنك"، أو تشغيل لسان حتى لا يعطب أو ينسى الكلام!!
تحدثت إلي الصحفية التي تعمل في الجريدة الفرنسية شبة الرسمية بمناسبة فتوى سابقة لفضيلة المفتي عن "جواز ترقيع غشاء البكارة"، وكانت رافضة ومستنكرة من زاوية غير التي يطرحها أغلب الرافضين، فقلت لها: هل لديك وقت لأشرح وأستفيض، قالت: تفضل لو سمحت!!
ورويت لها بالتفصيل قصتي مع النظر في هذه المسالة من قبل الفتوى، واطلاعي على أراء فقهية قديمة وحديثة، حتى صار عندي إلمام معقول بجوانب القضية، وبمنطق وحجج كل فريق يرفض أو يقبل، وبسطت لها الأمر بجوانبه وبعد ساعة من الحوار على الهاتف وجدتها تصرخ مستنكرة: لماذا لا يشرحون لنا الأمور هكذا؟!
لماذا يكتفون بذكر النتيجة النهائية التي تبدوا ملتبسة أو غامضة؟!
لماذا لا يحترمون عقولنا، أو يدركون أصلا أن لدينا عقولا يمكن أن تفهم وتستوعب؟!
استعدت هدوء أعصابي بعد حماس اندفاعي في الشرح، وقلت لها: لا أعرف، يمكن أن تسأليهم!!
اقرأ أيضاً:
على باب الله: وقالت خالتي/ على باب الله: بلادي
التعليق: من سخرية القدر أنه تبين في وثائق أمن الدولة أن فضيلة المفتي تزوج4 مرات عرفي حتى لا تعرف زوجتة !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!! فهل هو حلال ياشيخ علي جمعة!!!!!!!!!!!!111