كنت في حلقة تلفزيونية تتحدث عن التقاليع في عالم الوشم وتسريحات الشعر، وتذكرت ما سمي في حينه بقضية "عبادة الشيطان"، ولم تتوافر عندي معلومات حقيقية وافية وقتها عن الموضوع، وبالتالي لا يمكن أن أسمح لنفسي بالخوض فيه، يبدو أن الظواهر الغريبة والخارجة عن المألوف تتزايد، وهناك كلام شائع ومنتشر عن التناقض الذي نعيشه بين ظاهر يبدو متجها إلى المزيد من التحفظات والمظاهر التي يعتبرها صاحبها دلالة على تقدم أو تمدد بدق وشم أو تسريحة شعر، التي يعتبرها آخرون دلالة على إيمان والتزام واستقامة بتقصير ثوب، أو إطلاق لحية، أو إسدال حجاب، أو المتصاعد، أو المتهاوي الحاصل لأوضاعنا العامة.
ارتداء زي أو تغيير شكل هو تعبير فردي في الطاقة والإمكان، بينما التغيير الاجتماعي أو الواقعي هو أمر لأكثر تركيبا، ويحتاج إلى جهد أوسع، وخطة أشمل، وعزيمة أمضى، وخريطة أبعد، والأسهل ميسور للأغلبية!!
هنا رأيت الالتقاء الخفي عن الكثيرين بين من ترتدي نقابا ترجو من ورائه تحقيق خدمة للدين، وقربى لله سبحانه، وبين من تضع وشما أو تكشف خاصرة، أو تجلجل لامعة في مكياج وإكسسوارات!! كلاهما يقوم بما يظنه غاية وسعة في تحقيق النموذج المثالي الذي يطمح إليه، في سبيل الالتزام، أو التطور أو التقدم!!
إغلاق منافذ التعبير والتغيير، وآفاق الفعل، وتحقيق الذات، ومسارات الترقي والصعود الفردي والاجتماعي، وطغيان عصر الصورة والشكل يضغط أكثر على مساحة الجسد لتكون هي الملاذ والمنفذ، فيكون الاحترام والعفة والطهارة وكل القيم النبيلة والمفتقدة ممكنة الاختصار في زيادة متر قماش في الملابس، أو يكون الانعتاق من التخلف ملخصا في التحرر من الملابس، أو ارتداء الغريب منها، أو صباغة الجلد بأشكال مخيفة.. إلخ.
الذي قفز إلى ذهني بعد الانتهاء من الحلقة أن الناس يبحثون عن طرق ومسارات ووسائل لإشباع حاجاتهم، وتحقيق ذواتهم، وأنهم في هذا متشابهين بأكثر مما يتصورون مع الفروق في الثقافات والأزمنة!!
وأن إغلاق مساحات السماح والمباحات والعفو – كما يسميها الفقهاء، من شأنه، كما شرحت توا، أن يفتح أبوابا هائلة للفتن، ويدفع بكثيرين إلى سبل الشيطان لأن الطرق إلى الله، وإلى الحلال وقف عليها متنطعون، بعضهم يستعرض ما تعلمه، وبعضهم يشدد على الناس بحسن نية، وربما بمرض في عقله أو علة في نفسه!!
أرباب العلل هؤلاء يدفعون الناس دفعا في طريق الشيطان، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا!! إنهم مثل هذا الذي قتل تسعة وتسعون، وذهب يسأل أحدهم: هل له من توبة، ولما رد عليه بأنه لا توبة له قام وقتله فأكمل المائة، ثم ذهب لآخر ليسأله نفس السؤال، فقال له الثاني: نعم لك توبة، ولكن فارق قومك.. إلخ القصة الشهيرة المذكورة في كتب السنة.
ونحن نقرأ سيرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وأقواله للبركة أو للتسالي، أو نرددها كما المسجل، بينما تغيب الحكمة والجوهر غالبا عنا!!
ماذا كسب الذي أوصد أمام هذا القاتل باب التوبة؟! أهم يقسمون رحمة ربك؟
ماذا يكسب وعاظ التشدد والقسوة، والتضييق على الناس؟!
هل ينفعون أحدا، أو يخدمون الدين حين يخرجون البشر من مسارات الحلال الواسعة، ومن بحبوحة الرخص، ومن تيسير الشرع، وعبقرية فقهنا العميق في التعامل مع مشكلات الناس، والتخفيف عنهم حيثما كان هذا متاحا!!
ماذا نكسب من كل هذا العنت؟!
وماذا سنخسر من الرفق، والله يعطي عليه ما لا يعطي على سواه!!
ماذا سنكسب في المجموع العام حين لا تجد ملايين وأجيال كاملة لها مكانا على أرضية الشرع، وفي كنف رحمة الله وكرمه، وواسع عفوه؟! وتنظر فتجد حياتها أقل من الأنعام والبهائم!!
ماذا حصدنا من التنفير، ومن التشدد والتضييق والتقييد، بينما في دين الله سعة، وآراء متنوعة؟!!
ماذا أصبحنا غير مهرجين في سيرك كبير نقفز ونتشقلب، ونبكي أو نضحك، وفوق وجوهنا الأقنعة، وخبز يومنا الكذب؟!
وهكذا يضحك علينا العالم كله، ونضر بأنفسنا وثقافتنا وديننا!!
كم هزني الخبر الذي يذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي يوم القيامة على الحوض ليسقي المؤمنين بيديه الشريفتين، اللهم اسقنا، وحين يقترب منه بعضهم يحجزهم الملائكة، فيسأل الملائكة لماذا؟!
فتقول الملائكة: إنك لا تدري ما أحدثوا من بعدك، لقد غيروا، وبدلوا!!
وفي شرح الحديث ذكر الفقهاء أصناف من غيروا وبدلوا، وذكروا منهم العلماء الذين حرموا الحلال، أو حللوا الحرام، وأنا أقول إن الذين يفتون بغير علم، ويظنون أن الفقه في التضييق، وأن القسوة هي الحل، والفقه هو ترك الرخص، وأن التيسير على الناس هو مدخل للفوضى، وما شابه، أقول أن هؤلاء دعاة على أبواب الشيطان يدفعون الناس دفعا إلى هجر بحبوحة الحلال إلى عنت الحرام وحرجه، ويجعلونهم يفرون من هجير التشديد إلى جحيم عذاب الضمير، وفساد الدنيا والدين!!
ماذا أقول: منهم لله!!
اقرأ أيضًا:
على باب الله: التغيير/ على باب الله: وحدي في بيروت