"اسمعي....... دعينا نتفق من قبل الزواج....... أنا رجل فكر.... أدب.... فلسفة...... حياتي خصصتها للتأمل في القضايا الكبرى....... لن أسمح لأحد.... لا أنت ولا أي أولاد ننجبهم مستقبلا بأن يشغلني عن ذلك.. مفهوم؟
تأتين يوما وتقولين لي الولد عنده حمى..... الولد مطلوب ولي أمره في المدرسة.... الولد يبكي الولد يضحك الولد لا أدري ماذا..... لا وألف لا........... مالي أنا؟.... تولي أنت الأمر كله...... مفهوم.......؟
هذا شرطي يا بنت الحلال.... إما أن تقبليه وإما أن يمضي كل منا إلى حال سبيله......"
هكذا تحدث توفيق الحكيم إلى الفتاة التي راح يخطبها على مضض وصارت زوجته وأم أولاده فيما بعد..... وحتى لا يظن أحد أننا نغرق في حالة خاصة غير شائعة في زماننا يمكننا استبدال رجل الفكر برجل الأعمال...... المشغول بالسفريات والصفقات والبيزنس ولوازمه.... وسترون أن النتيجة التي سنصل إليها واحدة.... متفقين؟
نعود إلى توفيق الحكيم........
قبلت الفتاة وتزوجا....... ثم أنجبا إسماعيل وزينب.....
إسماعيل يكبر وتوفيق الحكيم مشغول بالفكر وبالمسرح وبفلسفته التي أطلق عليها التعادلية وفتح بها آفاقا جديدة للفكر العربي.......
إسماعيل كأي طفل يقبل على أبيه طالبا اللعب والحنو والاهتمام...... طالبا الدفء والتواصل الإنساني..... توفيق الحكيم –كما روى في أواخر أيامه- لم يكن يسمح لمشاعر غير عقلانية أن تضعفه وتذهب به بعيدا عن الانغماس فيما كرس حياته من أجله.....
إسماعيل الطفل يستشعر هذا الرفض من جانب أبيه فيلح مرة واثنتين وعشرا.......
وبعد المرة الخمسين ييأس فينزوي بعيدا عن والده متسائلا عما إذا كان العيب منه هو: إسماعيل.......
ويتساءل كيف يكون العيب منه بينما أمه تتعامل معه بكل هذا الحنان وبكل هذه المحبة؟
تستذكر له دروسه وتشرح له قواعد النحو وتذهب به إلى الطبيب كلما مرض وتقضي ليلتها بجوار فراشه حتى يتعافى...... وحين يجد الجد ويظلمه تلميذ أو مدرس كانت هي من تذهب لتأتي له بحقه كي يشعر أن له في هذه الدنيا ظهرا.....
إسماعيل المراهق يصل إلى أن الخطأ بالتأكيد ليس منه......... إذا كان يرفضني فانا بالمثل سأرفضه....... هكذا همس لنفسه بتصميم ومضى في طريقه......
الأب رائد من رواد الفكر العربي......... فليكن إسماعيل شيئا على النقيض تماما:
أطال شعره وأظافره.... وأنشأ فرقة موسيقية تعزف الأغاني الغربية للمراهقين في النوادي الليلية........ وكانت ضجة في القاهرة أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات: أرأيتم ابن توفيق الحكيم وما يفعله بنفسه وبهيبة أبيه؟
كان إسماعيل يغضب إذا أشار إليه الناس على أنه مجرد ابن توفيق الحكيم حتى سأله مفيد فوزي يوما لماذا تبدو وكأنك تتبرأ من أبيك؟ فصمت إسماعيل برهة قبل أن يجيب بحسم: أنا لا أتبرأ منه.... ولكن أنا اسمي إسماعيل الحكيم......
وحين أراد مفيد بأسلوبه أن ينحي بالحوار إلى منطقة أكثر دفئا سأل إسماعيل أي مسرحيات توفيق الحكيم أعجبتك أكثر من غيرها, كانت إجابة إسماعيل السريعة كطلقة رصاص: أنا لم أقرأ أيا من مسرحياته!
في أوائل السبعينيات ذهب توفيق الحكيم لأول مرة ليستمع إلى عزف ابنه..... وعاد ليكتب مقالا شهيرا عن صراع الأجيال.....
كان هذا هو تصوره عن حقيقة الموضوع......... وربما أراد ساعتها أن ينظر للمسألة على أنها فقط هكذا..... ولكنه بعد سنوات كان إسماعيل فيها قد مات بعد أن استهلك شبابه....... كتب توفيق الحكيم مجموعة من الرسائل إلى أرملة إسماعيل يقول فيها أن جفاء إسماعيل تجاهه كان أبعد كثيرا من مجرد صراع أجيال.......
كان الموضوع مسألة زراعة وحصاد.......
ويتبع >>>>: زراعة وحصاد: مشاركة
واقرأ أيضاً:
صراع في الدماغ: الحيل الدفاعية / الحيل الدفاعية (6/6) / بطوط