الطريق إلى بيت جن (3)
منطقة الحريقة
الحريقة هي المنطقة الواقعة جانب سوق الحميدية من جهة الجنوب، وسوق مدحت باشا من جهة الشمال. عُرفت في السابق باسم محلة "سيدي عامود" نسبة للوالي سيدي أحمد عامود الذي كان مدفوناً فيها، وأصبحت تعرف باسم "الحريقة" بعد الحريق الذي شب فيها إبان القصف الفرنسي لدمشق عام 1925 وأدى إلى دمار واسع أتى على الكثير من البيوت والآثار المعمارية الهامة بهذه المنطقة.
وقد بدأت "الحريقة" عندما سقطت قذيفة مدفعية أطلقتها القوات الفرنسية الاستعمارية، والتي كانت تحتل سوريا في هذه الفترة، ووجدت أشد المقاومة من أهل سوريا البواسل وبالذات في دمشق، حيث اتخذ المجاهدون من منطقة الغوطة المكتظة بأشجار الفاكهة مراكز لمقاومة المستعمر الفرنسي، وبالطبع لم يسكت المستعمر الغاصب، وبدأ في ضرب دمشق من قلعة المزة، فاشتعلت النيران وامتدت النيران إلى البيوت والمحلات المجاورة، فالتهمت فرن جبران وزقاق المبلط وراء سوق الحميدية، ثم زقاق سيدي عامود، وكذلك احترق ضريح سيدي عمود نفسه، وبعضاً من سوق مدحت باشا، ولابد لنا من وقفة هنا وإجراء مقارنة بين ضرب منطقة "الحريقة" بالمدافع في سوريا سنة 1925 ، وضرب جنود نابليون ثم كليبر للقاهرة بالمدافع في ثورتي القاهرة الأولى والثانية عندما ثار المصريون ضد الحملة الفرنسية على مصر سنة 1798 و1800، ولكم أن تتصوروا مدى الدمار الذي أوقعه الفرنسيون بمصر وبالمصرين في ذلك الزمن البعيد، ولدرجة أن مدافع نابليون طالت ذقن أبي الهول والأزهر وبعض الأحجار من قمة الهرم الأكبر كما يُقال، ولكن هذه هي قسوة المغتصب الغربي دائماً وإن اختلف الزمان والمكان والأشخاص.
أما الأماكن التي سلمت فأحمد الله كثيرا على سلامتها مثل سوق الحميدية والبيمارستان النوري (وهو بيمارستان السلطان نور الدين محمود زنكي الشهيد، أستاذ صلاح الدين الأيوبي وقدوته)، والذي يعد من أهم البيمارستانات الباقية في العالم الإسلامي، وهو يقع إلى الجنوب الغربي من الجامع الأموي، ويضم اليوم متحف تاريخ الطب عند العرب، وبصراحة أكثر ما أعجبني فيه بابه النحاسي العملاق، والذي أظنه الباب الأصلي الذي بُني مع البيمارستان، ورغم أن الزنجار النحاسي الأخضر يكلله، إلا أنك تشعر وأنت واقف أمام ذلك الباب التاريخي بأنك قزم تعيش في القرن الحادي والعشرين، فعمر البيمارستان حوالي ثمانية قرون ونصف، وهذا يجعلك تشم عبق التاريخ الجميل لنور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي وزوجتيهما السيدة الفاضلة المحسنة "تركان خاتون"، والتي كانت لا تدخر جهدا في الإنفاق بنفسها على فقراء دمشق، وعلى مرضى ذلك البيمارستان العظيم مما ورثته من والدها، فيُعطى للمريض المتعافي والخارج من البيمارستان بعد الشفاء مبلغ عشرة دنانير ذهبية حتى ينفق على نفسه في نقاهته (والمقارنة تجعلك تبكي اليوم على مرضانا الفقراء والذين هم عادة لا يجدون مكانا في مستشفى عام حتى تصعد أرواحهم إلى بارئها).
ونعود الآن إلى الحريقة حيث الخسائر الفادحة في الأرواح والممتلكات التي دُمِرت في تلك الحادثة البشعة؛ فأُطلِق على هذه الواقعة اسم "نكبة دمشق"، وفيها كتب أمير الشعراء أحمد شوقي قصيدته الشهيرة "سلام من صبا بردى".
أما منطقة الحريقة اليوم فهي من أهم أسواق الجملة في دمشق، فإذا أردت أن تشتري ملابس (أيا كان نوعها: حريمي رجالي أطفال أو ملابس رياضية) أو أحذية أو ستائر أو سجاد أو مفروشات أو عبايات أو حتى تحف فأنصحك أن تشتري من محلات الحريقة، وذلك لسبب بسيط وهو أن معظم محلاتها تتبع معامل ومصانع، وهي كما قلت تبيع بالجملة، ولذلك فأنت تجد البائعين قليلي الكلام ومحددي الأسعار على عكس أقرانهم في سوق الحميدية تماما، ولكنك لا تفتقد أبدا إلى ذوق ولباقة تجار دمشق، والتي تجبرك على الشراء في النهاية أيا كنت ماهرا وابن سوق.
وتجد في منتصف منطقة الحريقة ميدانا مربعا صغيرا للمشاة فقط وفيه حديقة صغيرة دائرية جميلة بها مقاعد للعامة وعربات للسندوتشات والعصائر، وطبعا تنتشر محلات البيع بالجملة للملابس والمفروشات والستائر وغيرهم في زوايا وأركان ميدان الحريقة.
ولعشاق الطعام (أمثالي)، أذكر أنني وجدت بجوار باب البيمارستان النوري الجليل وعلى بعد أمتار قليلة فقط محل صغير يبيع ساندوتشات للفلافل (الطعمية) الشامي، ولا يتجاوز ثمن الساندوتش الواحد جنيهان مصريان، ولكن بالهنا والشفا، فلافل على شكل حلقات مخلوطة بكل شيء من البهارات والطحينة وحتى المخلل والطماطم والخس والخيار، وأنصحك أن تأخذ من نفس هذا المحل الصغير زجاجة لبن (رايب) من أجل إطفاء نيران الفلافل الجميلة بمعدتك.
وإلى مكان آخر بدمشق في المدونة القادمة
واقرأ أيضاً:
يوميات ولاء: أحب مصر- مشاركة / معلومة تهمك في رمضان