أغسطس أم رمضان.. رمضان أم أغسطس؟!
أيهما يحمل الذكرى وأيهما يحمل الألم؟!
36 أغسطس مرت على حياتي حتى الآن، كان يمثل لي فيها الشهر ذكرى هي لدى البعض عزيزة ولدي أنا ميقات حساب وذكرى مجيء إلى الدنيا، أتم في أغسطس من كل عام عاماً من عمري ينقص به أجلي ولا أدري هل يزيد في عملي أم... اللهم سلّم.. اللهم سلّم!
أتى أغسطس الـ "37" هذا العام وهو يحمل في طيات أيامه مفاجآت حزينة.. أبي إلا أن يترك لي به منذ اليوم وصاعداً بصمة مؤلمة وذكرى محزنة، فغيب الموت فيه أحبائي وجذوري.
الثامن منه أصبح يجمع إلى ذكرى يوم مولدي، ذكرى وفاة جدتي الغالية وفي ليلة الجمعة الأخيرة منه لحق بها أيضاً جدي الحبيب عليهما جميعاً رحمة الله.
وهكذا بدا لي أغسطس العام كئيباً، موحشاً، حاصداً للأعمار والأفراح.. ضم إلى حرارة صيفه حرارة الدموع وجفاف الحياة وقسوتها.. أخمدت فيه أصوات لطالما رفعت إلى ربها الدعاء، وغيّب أجساداً طاهرة لطالما رفعت أكفها بالثناء، وتوقفت فيه نبضات قلوب دافئة لطالما نثرت بوجودها الخير والبركة على كل من حولها.
لقد كنا جميعاً نرزق ببركة وجود جدي وجدتي في عائلتنا، وكنا جميعاً ننعم بجميل دعواتهما لنا في كل الأوقات والأحوال.
بابان للجنة كانا مفتوحين.. جدي، وجدتي، بابين للخير والبركة والرزق قد أوصدا.
آه ما أقسى الموت وما أقسى الحياة.. ما أقسى أن يموت لك عزيز كنت أنت العزيز لديه.. هل أدركت الآن عزيزى القارئ مقصدي.. هل أدركت معي مدى الفقد والمصيبة؟ إنك عندها لا تدري هل تبكيهم أم تبكي نفسك!
لقد بتت بلا أحباء، بلا أعزاء، بلا جذور!
ما أقسى أن تعيش بدون الأحباء الأعزاء، تدخل بيتهم فلا تجدهم.. تتلمس فرشهم فتجدها باردة.. تفتح دولاب ملابسهم فتتخيل "القوالب" الحية الجميلة الروح والخلقة التي كانت تملأ تلك الملابس وتزينها!
عصا جدي ونظارته، شاله وقميصه والسديري الذي تتدلى منه ساعته.. مناديل جدتي "الأدوية"، شالها القطيفة، فساتينها الزاهية برغم كبر سنها.. أشياء كان لي منها نصيب اللمس والدفء عند الاحتضان.. أشياء لي معها قصة و"عشرة" وألفة تشبعتها منذ طفولتي من روح أصحابها.
"رتيبة"، و"النوبي" كانت أسماؤهم.. على مشارف التسعين كان عمر جدي، وعلى مشارف الثمانين كان عمر جدتي.. رحلة طويلة من العطاء والقرب والحنو للأبناء والأحفاد وأحفاد الأحفاد والأقارب والأصهار والجيران والمعارف والأصدقاء وإذا ما أضفت إلى تلك الرحلة بعطاءاتها السمات الشخصية التي كان يتمتع بها كلاً منهما تدرك سر الارتباط والحب لهما ومرارة الفقد والفراق لهما أيضاً.
كان جدي رحمة الله من مواليد العام 1917 بمدينة إسنا بمحافظة قنا.. صعيدياً دمث الخلق، عفيفا، طيب المعاملة، حانياً، وصّالاً للأرحام، عصاميا، كريماً، مستقيماً، عف اللسان لا يسب ولا يشتم، لا يضرب ولا يعبس في وجه صغير ولا كبير، إذا غضب سكت وأشاح بوجهه ليس أكثر، له كلمة محترمة ورأي مسموع ، يجيد القراءة والكتابة وتلاوة القرآن، رزيناً وقوراً لا يتكلم إلا قليلاً ولا ينطق إلا بخير، دائم الذكر، يجيد من اللغات لغة الدعاء، عزيز النفس، محباً للناس.. وقد ظل هكذا لم أره يوماً يتغير أو يتبدل أو يتناقض في صفاته الخلقية ولم أسمع عنه من أحد شيئاً سوى أنه كان "راجل أصيل"!
في الثمانينات من القرن الماضي كنت وأختي صغاراً بالمرحلة الابتدائية وكان رمضان يأتينا صيفاً وجدي أيضاً معه يصاحبنا في رمضان من كل عام هو وجدتي حاملاً معه أقفاصأ من البيض وهو تاجره، وصناديقا من الحمام والبط والبلح والكعك والفطائر وما يعرف بـ"العيش الشمسي" وهو نوع من الخبز مشهور به أهل الصعيد، يتعطر بيتنا بتلاوته الخاشعة دون تكلف للقرآن في نهار رمضان، وننعم بدعواته عند الإفطار وننتظره بعد التراويح عائداً بما نحب من الحلوى والمثلجات، وفي العيد مكبراً بصوته الخاشع الجميل.. وفي أيام العيد باسماً فرحاً بنا يعطينا العيدية ويضحك ضحكته الوقورة الجميلة المستنسخة من ضحكة عبد الوهاب في فيلمه الوردة البيضاء!
لقد اقترن لدينا رمضان وقتها بوجودهما معنا وعندنا. كان مداوماً على قراءة الصحف صباحاً وكنت أجلس إلى جواره يعجبني منظره وتقييمه لبعض الأخبار بأنها "كلام جرايد"!
وعندما تمر علينا المناسبات خلال العام لدى عودته إلى الصعيد، كان يتحفنا بكروت المعايدة يرسلها إلينا في رأس السنة الهجرية والميلادية والمولد النبوي وعند النجاح نهاية العام، يخص كل واحدة منًا بلقب وتعليق فهذه "ابنتنا الدكتورة.."، "وهذه" ابنتنا الباشمهندسة...." كانت تفرحنا ألقابه التي تحمل أمنياته وتسعدنا دعواته.. تملؤنا ثقة بأنفسنا لفخر جدنا بنا وتشعرنا بالاهتمام والفهم برغم بعد المسافات والأجيال.
كان رحمه الله متنوراً محباً للعلم، حرص على تعليم أولاده وأكبرهم والدي، وكان يرى في تعليمنا وتفوقنا وشغلنا المراكز المرموقة أمرأ غاية في الأهمية وامتدادا يشعره بالفخر والفرح في آن.
كان أيضاً قوي العقل، قوي الذاكرة.. لم يفقدها سوى قبيل وفاته بشهر أو اثنين حيث خارت قواه الجسدية ودب الوهن بجسده النحيل فلزم الفراش ولم يعد حتى يقوى على الذهاب إلى مسجده الذي لم يغادر أداء الصلوات فيه طيلة أيام عمره المديد مما زاد في ألمه النفسي وكانت الدموع تنساب من عينيه في سكون إذا ما أمكنه سماع الأذان وكان سمعه قد ثقل أيضا، عندما توفيت جدتي في أوائل الشهر شددت الرحال إلى الجذور؛
إلى إسنا حيث كان جدي في حالته الصحية تلك، في اليوم الأول لوصولي لم يعرفني فبكيت بشدة واسترجعت، وفي اليوم التالي دخلت عليه صباحا وسلمت عليه ففوجئت به يقول لي "حمد لله ع السلامة" وأخذ يدعو لي دعواته الجميلة التي طالما اشتقت إلى سماعها كدت أطير من الفرح لأنه عرفني.. يا حبيبي يا جدي هل تذكر تلك الأيام، ما أنا فيه الآن جزء من أمنياتك ودعواتك قد تحقق.. هكذا كنت أردد بيني وبين نفسي.. مكثت أياماً إلى جواره اضطررت بعدها للمغادرة حيث أسرتي الصغيرة وعملي بالقاهرة.. وكانت تلك أيام الاحتضار وأنا لا أعلم.. كان قليل الأكل، دائم النظر إلى السماء.. عندما يقترب منه أحدنا يوصيه.. ثم يخاطب أحداً لا نراه قائلا ً "أنتم لسه مجيتوش.. يللا بقي".. يذكر الله ويدعو.. تتساقط دموعه وتنساب بدون سبب.. عندما ودعته للسفر أمسك يدي بشدة وظل يردد "أراكم بخير".. "أراكم بخير".. هممت أن أحتضنه وأقبل رأسه فأخذ يحدثني "كفاية".. "كفاية".. "أراكم بخير"!
سافرت وكلماته تتردد في أذني "أراكم بخير" وبعدها بعشرة أيام جاءني الخبر "مات جدي".. لحقت جذوري بالرفيق الأعلى ولم يبق لي سوى شريط الذكريات.. كروت المعايدة.. وآخر أمنياته "أراكم بخير"!
ويتبع >>>>: حكايا رمضان الحصرية
اقرأ أيضاً:
أم كلثوم ولا نانسي.. هوه الخلع لعبة؟! / أنا مش مُزة