رمضان يأتي كما عودنا، ويمضي سريعا كما تعودنا!!
قلت: ليس عندي جديد هذا العام، فالصمت أفضل ثم قرأت كلاما لفت انتباهي لفضيلة الشيخ الباقوري -رحمه الله– يلتقط فيه ببراعة العلاقة بين الصيام وقول الزور على هامش حديث الرسول صلى الله عليه وسلم "من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"، ويرى الباقوري أن الزور قولا وعملا من أشنع الأخلاق والصفات والتصرفات التي تقلب الحقائق، وتمسخ الأمور، وتهدم بنيان المجتمع كما تضر بسمعة أفراده، والصوم وهو الدواء لهذه الآفة وذلك المرض، فهو حرب على الشهوات جميعا، ومن بينها الزور الذي هو شهوة يدعو إليها ضعف الشخصية وضعف النفس، فالإنسان حين تقل مروءته، ويسقط حياؤه لا يبالي أن يكذب ويكذب، ويجد في قلب الحقائق وخلق الأكاذيب لذة يشتهيها ويطلب إشباعها، والزور بذلك هو من أشد الشهوات وأخطرها وأعظمها بلاء، ولو أدخل الصائم في حسابه الإمساك عن هذه الشهوة، وتنبه لها ليردها كلما همهمت في نفسه، وحومت في خاطره، كما يرد بارد الشراب عن ظمأ، أو شهي الطعام عن جوع، إذا فعل ذلك فإنه لا بد أن ينتهي إلى نهاية طيبة! –انتهى–
وتذكرت ما تعرضت له من زور على مر شهور مضت، أقوال الزور، وأفعال الزور، وتداول الزور، وكنت لما تأملت في الأمر وجدت أغلب الناس مستعدة لتصديق الأكاذيب مهما كانت بشعة وغير منطقية، أو تبدو متهافتة!!
ولا يوجد لديهم وقت ولا استعداد للتدقيق والتبين، أو التحقيق والتوقف، قبل التورط فيما لا يجدر بهم تصديقه أو تمريره!!
وحزنت على أمتي، وأشفقت على نفسي، وعلى كل من يعيش في هذه المناخات محاطا بهذا الميل لقبول الزور، وصناعة الزور!! والسباحة في بحر من الأكاذيب!!
إن الزور بالمعنى الشامل والعميق للكلمة هو نمط حياة نعيشه، نكذب فيه على أنفسنا، وقد نرمي بريئا بالباطل، أو ندافع عن مجرم يستحق العقاب دون دليل في اتهام أو تبرئة!!!
ويتوسع المعنى ليصل إلى كل زيف نتورط في ترويجه أو إشاعته أو تصويره بأنه شيء يعتد به، أو حين نعلي من شأن أمر أو شخص لا يستحق، أو نسكت على انتشار ممارسة أو عادة أو قيمة أو إبداع مما ينطوي على باطل، وأحسب أن قول الزور، وشهادة الزور، منظومة الزور كلها هي نمط ونظام حياة قد يعيشه الفرد أو المجتمع بأسره، وقد تعتاده الأمة وتدمنه فيتسرب في دمها كالسم الزعاف يدمر كل أجهزتها، ويوهن من فاعليتها، وبدلا من أن تكون أمة قائمة على الإيمان والحق، والمعرفة، والتناصح والتعاون، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحض على الفضائل، وإشاعة الخير والجمال والسلام تصبح أمة قائمة على الزور يكذب فيها الإنسان على نفسه وعلى ربه وعلى من حوله، ويكذب ويكذب حتى يصدق كذبه أحيانا ويعيشه، وحتى يصدق الآخرون، ويعيشون الكذب كأنه الحقيقة بينما حياتهم زور في زور!!!
داء وبيل، وشر مستطير، وسم يسري في دمائنا، وأمثاله كثير من أمراض وسموم. ثم يأتي رمضان هذا العام ليذكرني، ويذكر كل غافل أن واقع الأمة، وفي دمها يجري الخير كما الشر، والترياق كما السم!!
أقرأ أن المصريون ينفقون ملياري جنيه على موائد الرحمن التي تطعم –بحسب إحصائية أخيرة- أكثر من خمس تعداد المصريين، وتبلغ هذه الموائد عشرة آلاف مائدة تنتشر في كل مصر، وتتدرج مستوياتها، ويتنوع ما تقدمه من أطعمة وحلوى.... إلخ.
ونظامي في رمضان هذا العام جعلني في المواصلات ساعة آذان المغرب عدة مرات لأرى عجبا!!
هذا العام زادت المنافسة بين الناس على من يظفر بأجر إفطار الصائم على كل زاوية، أو ناصية مفرق، أو محطة مترو، أو في الساحات والميادين يقف شبان، وتقف فتيات يحملون ويحملن كل ما يمكن تخيله من أنواع الطعام قبل انطلاق مدفع الإفطار، ومن بعد آذان المغرب.
بعض شركات الأغذية والمشروبات دخلت في المنافسة كنوع من الدعاية، وصار بعضها يقدم ما يشبه وجبة مصغرة!!!
صواني تحمل أكواب الزبادي، وأكياس التمور، ومبردات المياه تصب لتروي عطش الصائمين، وتقول للغافلين من أمثالي: ها هي الأمة تطعم نفسها، لا تنتظر دولة ولا سلطة، ولا أصحاب ثروة، ولا مبادرة حزب ولا جماعة، ولكنها تندفع بكل طاقاتها تبتغي رضا الله فقط، وتطعم بعضها البعض!!
الأمة تتجلى في رمضان وتظهر تلك التي نحلم بها كالحوار، فإذا بها أمامنا تفعل وتتحرك!! في رمضان تقول الأمة: هنا.... ما زلت قادرة.. فاعلة، ولكن أكثر الناس لا يعلمون!! لا يوجد في الأمة جائع طالما نعيش في رمضان، لأن الشهر ينقل الأمة من وضع الفوضى والسبهللة والتسيب إلى وضع النظام والتحكم، والتدبير والإدارة!!
كلمة السر هي: رمضان، وشفرة ترياق العلاج من السموم تنحل إذا فهمنا درس رمضان، وقرأنا خريطة الأمة النفسية والاجتماعية في رمضان، لكن لا أحد يقرأ!!
نحتاج إلى دراسة أعمق لهذا الشهر الذي نظنه صوما وصلاة وقياما وذكرا ودعاء وتهجدا وتسبيحا فحسب، فإذا به أكبر من هذا كله ويتضمنه!! هو الشهر الذي ينفض الأمة فتنتفض، ويقلب حياتها فتعتدل لأنها أصلا مقلوبة، وبشكل خاطئ!!
وقلب المقلوب يعيده معتدلا!!
إذا كانت الأمة بلا جائع واحد في رمضان دون إدارة سلطة، أو هيكل تنظيم، أو حركة جماعة.. فلماذا عجزنا عن فهم هذا واستثماره بأسراره ومظاهره؟!
لماذا ضاقت عقولنا عن استيعاب درس رمضان، وفك شفرته؟! من رمضان نبدأ... ألا تسمع معي قول المصطفى؟! اصغ وستسمع: "لو علمت الأمة ما في رمضان من خير لتمنت لو أن السنة كانت كلها رمضان، وصدق!
اقرأ أيضًا:
على باب الله: مسافر ليل/ حزب ومعتصماه: عندما ترعى الذئاب (متابعة)