كنت قد صرّحت مرارا كيف نجحت لأكثر من عامين أو أكثر أن أحمي وعيي من التزييف، وحِسِّي من التبلد، بالتوقف عن مشاهدة التلفاز أصلا، لكنّ صديقي الشاب العفريت عرض أن يقحم على كمبيوتري كارت تلفاز قادر على أن يستجلب لي أية فضائية في زاوية من شاشة الكمبيوتر، قبلت بعد تردد، ودون خشية التشتت، فقد دربت انتباهي على مثل ذلك.
فوجئت مفاجأة عم إمام وزوجته حميدة حين حضرا إلى القاهرة في الأربعينات ليشهدا الترام لأول مرة، ناهيك عن تغير ألوان إشارات المرور، جلسا منبهرين على الرصيف يرقبان، ويتابعان الألوان المضيئة، ويتبادلان الدهشة والفرحة في آن: ("حمرة يا حميدة، صفرا يا إمام" أهي حاتخضر يا حميدة لا دي حاتحمرّ يا إمام...إلخ). وجدت نفسي أتابع الفضائيات التي ظهرت في أعوام انسحابي بنفس الطريقة (مزيكا يا يحيى، لا دي "ميزيك بلاس" يا خويا، روتانا يا يحيى، لا دي ميلودي يا سيّد..!!) لم تكن هذه مفاجأة عودتي إلى التجوال في الفضاء الهائص زيفا هكذا، ولا كانت الندوات الكلامية تحصيل الحاصل، ولا كانت تزييف التاريخ بعضلات الذكريات الضامرة لشيوخ سياسيين لم يعد لهم دور إلا التباهي بتصوراتهم عن أنفسهم، ولا في الاضطرار لسماع جمهرة من الأجساد، وهي تتلوى غناء، وتصدح تنطيطا.
الذي أفزعني أكثر كانت صورة "مجموعات الحريم" في خلفية كثير من أغنيات وبرامج الفضائيات الخليجية خاصة، وهي تتثنى اهتياجا، وتتقصع نداء، وتغمز استضعافا، وتنادي إسرارا. لم يكن انزعاجي من منطلق أخلاقي (تقليدي)، ولا حتى من منطلق ديني (تحريمي)، فلعل فتوى خليجية أو غير خليجية تقول إن هذه ليست أجسادا حقيقية، فلا بأس من كذا وكيت.. إلخ، انزعجت أن يصل إلى وعي نشئنا خاصة أن هذه هي "المرأة"، لا أكثر ولا أقل،!! أي تشويه وأي امتهان!!!!
من قديم، ومن منطلق انتمائي إلى فكر التطور، وأنا أرى أن المرأة هي الأصل، هي الحياة، وأن الرجل –خاصة بوضعه الراهن- قد يكون أو يصبح اختيارا تكميليا، لا ضرورة تطورية، ثم إني سبق أن أشرت إلى ذلك في فرض حتمية التكامل بين الذكر والأنثى داخل وخارج الجنسين، وإن اختلف المسار.، (المجلة الاجتماعية القومية سبتمبر 1975) نبّهت في ذلك الفرض أنه يبدو أن الرجل، حين ألغى الأنثى المبدعة في داخله قد توقف نموه التطوري عند مستوى الذكورة المستقطبة، ليتمادى في قهر المرأة خارجه وكأنه يتنكر لأنوثته الكامنة التي لا تكتمل إنسانيته إلا بها.
فيتمادى القهر الذكرى (من النساء والرجال) إلى إشعال الحروب واكتساح الأسواق وإذلال الأضعف. ترتب على ذلك أن أعيق تطور المرأة ضمن المستضعفين، وبدلا من أن تنتبه إلى خيبة هذا الذكر الغبي ونقصه، راحت تطالب بالمساواة به وهو أبعد ما يكون عن إبداعه ذاته نماء وتطورا، أو إطلاق إبداعه تشكيلا.
ثم بعد نصف قرن من الممارسة والمعايشة لاختبار هذا الفرض، رجَحَتْ عندي صحته أكثر. نعم: مازالت فرص المرأة أكبر لاستكمال مسار تطورها إنسانيا، إذا ما رفعنا عنها القهر، وتأكد لها العدل الحقيقي في مجالات النمو والحركة والأمان، وإذا توقفت بدورها عن تضييع وقتها في أوهام المساواة الزائفة. ثم بعد ذلك قد يلحقها الرجل أو لا يلحقها، ثم رجح الفرض أكثر وأنا أقرأ كتاب "الوجه الأنثوي للعلم" (سبقت الإشارة إليه هنا).
أفقت من كل ذلك لألتفت إلى زاوية الكمبيوتر، والفضائيات إياها تطل علي تختزل المرأة إلى جسد يتلوى وقميص نوم يتطاير، أمام مخنث أخنف، يستغيث بموسيقى نشاز، تأبى أن تسعفه. لماذا؟ إلى أين؟ إلى متى؟.
نشرت في الأهرام بتاريخ 24-1-2005
اقرأ أيضا:
تعتعة سياسية: الراقصة.. والمسخ / ست الناس.. والدستور.. والمواطنة!! / ماذا فعل الإعلام بالمرأة ؟ / أنا بقى بتاعة حقوق المرأة / زينة المرأة ليست للإغراء مشاركة5