.... الخطاب الجاري بعد مفاجأة الانتخابات التي هي ليست مفاجأة، يحتاج وقفة ومراجعة، الحديث يدور عن الدين، والإخوان، والوطن، والوطني، حتى وصل التنويه إلى علاقة ما جرى بالله سبحانه، وبالإيمان....الخ. كل هذه الألفاظ تصدر من مجتهد، أو مستسهل، فتصل إلى وعي الناس بأشكال مختلفة.
لو حسبنا ماذا تعني كلمة "الإخوان" عند عينة من الناس: الناخبين والقاعدين، والسياسيين، والمتدينين، المؤيدين، والمعارضين، والمخالفين، والخائفين، لخرجنا بنتائج مختلفة. نحن نحتاج أن نتأمل ما نستعمل من ألفاظ وشعارات، ربما انتهى عمرها الافتراضي. خذ مثلا، وعذرا للتكرار، شعار "الدين لله والوطن للجميع"، هو كلام جيد قيل في مناسبة تاريخية احتاجته، فأدى مهمته، هذا الشعار يستعمل الآن بفرحة عّلمانية عفوية، أو نية حسنة، وهو يعني إجمالا: أن تنفصل الدولة عن الدين، وتحديدا أن تمنع السلطة الدينية من إعاقة حركية إدارة الدولة.
لكنه في النهاية قد يؤدي إلى تهميش الدين فالإيمان، الأمر الذي هو ضد الطبيعة البشرية، هذا ما أعلنته كل صناديقُ الانتخابات من الإسكندرية إلى نيوجرسي مرورا بتل أبيب وبغداد والبصرة.
الإيمان أصلٌ في الوجود، والدين أحد تجلياته، بوحي ورحمة من الله عبر أنبيائه عليهم السلام. الإيمان ليس مرادفا للدين الخائفون من تدخل السلطة الدينية بجمود معوّق، راحوا يلقون بالطفل (الدين) مع السلة المتخلص منها (السلطة)، ويكتفون بإعلان السماح للأفراد أن يتدينوا بعض الوقت، أو كلما لزم الأمر!!، الأمر الذي همّش الإيمان وتجاوز الطبيعة البشرية، فجاع الناس إلى الرجوع إليها، فتبعوا شعارا براقا يـعِـدُ، بلا ضمان.
تظل حركية الإيمان/الإبداع هي الوجود البشري في أنقى صوره. الإيمان موقف وجودي حياتي حيوي، يمتد بالوعي البشري إلى الوعي الكوني كدحا إلى ربنا لنلاقيه، هو عملية فردية/جماعية بقائية تطورية مستمرة، لا يمكن تهميشها بأي قرار أو تنظيم، كما لا يمكن حبسها بأية وصاية أو تقزيم. الفصل بين الدين والدولة ينبغي أن يمتد إلى نوع من الفصل بين السلطة الدينية وإيمان الناس، لا استهانة بدورها، وإنما تنظيما يطلق حركية وعي كل واحد إلى ربه إيمانا وإبداعا: "كل يعمل على قدر إيمانه" (ملحمة الحرافيش). هذه النوعية من الوجود البشري الممتد هي التي تفيد كيف أن الأمر كله لله: الدين لله والوطن لله، والدين للجميع والوطن للجميع، والجميع لله. هذا كله لا يتحقق بتهميش الدين إلى نشاط فردي سري اجتماعي خاص بعض الوقت، ولا بتسطيحه وسجنه في ألفاظ تجمدت في وعي المفسرين عبر الأزمان، وإنما برفع سقف الحركة إلى الله حتى تتسع للوعي البشري المتجه إليه إبداعا وعبادات.
في مقالي السابق في الأهرام أوردت مقتطفا من حرافيش محفوظ في حوار بين فلة وعاشور الناجي الكبير، وهي تسأله: "كيف يلقاك الناس يا عاشور؟" فيرد "كل يعمل على قدر إيمانه"، الإيمان في هذا السياق الإبداعي المخترق يمكن أن يعيننا لنستلهم فهما جديدا لإسلام هؤلاء الأعراب (وإسلام بعضنا) دون الإيمان الذي في الآية الكريمة: "قالت الأعراب آمنا، قل لم تؤمنوا، ولكن قولوا أسلمنا ولمّا يدخل الإيمان في قلوبكم"، أما الإيمان الذي ورد في مقال بعنوان عن الدين والسياسة لكاتب جاد (فهمي هويدي - الأهرام 20 ديسمبر) باعتباره "طاقة" تجلت في الشعب المصري في الانتخابات الأخيرة وعلينا أن نستثمرها..الخ، فلعله شيء آخر.
هل الإيمان طاقة؟ أم فطرة؟ أم سعي كياني إبداعي؟ أم بند في برنامج نائب إخواني..الخ؟ وهل هو مرادف للدين؟ أم للإسلام؟ أم للإخوان؟ كل هذا يحتاج إلى وقفة ومراجعة، نسأل الله أن يوفقنا إلى بعض ذلك، وهو، تعالى، من وراء القصد.
نشرت في الأهرام بتاريخ 26-12-2005
اقرأ أيضا:
أينشتاين / .. الخوف من إعاقة السعي إليه. / قيمتان ... وقيمتان، والروبوت البشري