أتألم مكررا حين يعاودني الشك في أن الإنسان العربي المعاصر هو صاحب هذه اللغة الجميلة المسماة "اللغة العربية". إن ما وصل إليه الإنسان العربي حاليا يفرض علينا أن نعيد النظر في مدى انتمائه إلى هذه اللغة، ناهيك عن مدى جدارته بحمل مسئولياتها، ومن ثم التصدي لتطويرها دون أو بدل نفسه!!.
اللغة كيان وجودي بيولوجي غائر، وهي غير الكلام وإن ظهر بعضها من خلاله، هي نسيج الثقافة الحالية بقدر ما أنها تعلن جذور الثقافة الممتدة في التاريخ.
في فترات التحول الحرجة -تطورا أو انحلالا- تتعرض أي لغة إلى خلل مؤقت قد يدوم إذا لم يحتمل أصحابها مسئوليته، إذ يستوعبون دلالته.
الإنسان العربي المعاصر، وصورته، يعلنان حالا خطيرة من السلبية والخمول والجمود والتبعية في حين تعلن لغته الأصيلة أنه مشروع قادر واعد. من نصدق، ومن نكذب؟ من نحن؟ هل نحن كما صرنا إليه حقيقة وتشويها؟ أم نحن ما تقوله لغتنا عنا إذ تشير إلى أصل شامخ ذي إبداع متجدد، ومرونة رحبة، وطبيعة سخية، وحوار خلاق؟
هذا التباعد بين الإنسان العربي الحالي ولغته الأصيلة جعلها عبئا عليه، فراح يتعامل معها كجسم غريب ناشز، أو في أحسن الأحوال. كأثر تاريخي يوهم بفخر زائف. ترتب على كل هذا أن تصدى للمسألة فريقان على طرفي نقيض: أحدهما راح يندب حظها، ويرثي مالها، ثم يتمادى في تثبيت مواقعها في سجون معاجمها، وكهوف نحوها، أما الآخر فقد انصرف هربا منها وهو يتخلى عنها سرا أو علانية، إهمالا أو تشويها، حتى ظهرت تلك البثور المتقيحة على وجهها: إما من لغات أخرى أو من لا لغة أصلا.
لعل ما آلت إليه حال لغتنا هكذا ليس إلا إعلانا عما آل إليه حالنا كله في أكثر من مجال، هذا الرطان المتقيح يعلن فيما يعلن عن احتمال رطان اقتصادي ورطان اجتماعي ورطان سياسي بشكل أو بآخر.
ثم يخرج علينا مجتهد متألم ليشارك في مواجهة الموقف بما لا يمكن إنكار حسن نيته فيه، فيزعم أن الحل هو في أن نخفف من قيودها، وأن نحرر نحوها، وأن نجدد قديمها.. الخ، الفكرة واردة وجيدة، فاللغة كائن حي طول الوقت، وأي وصاية عمياء عليها لا تؤدي إلا إلى تصنيمها حتى التشويه والجمود فالتحلل. لكن التطور المبدع لا يأتي فقط من الخارج إلى الداخل. فخشيت أن تكون المسألة استسهالا. لا مسئولية مبدعة متحدية.
لن تنصلح لغتنا بتحسين شكلها أو بتخفيف قواعدها. إن ما آل إليه حال لغتنا إنما يعلن ما نحن فيه بشكل أو بآخر
حين يكون لحياتنا معني، ولوجودنا هدف، ولجماعتنا شمل، سوف نكتشف كيف أن لغتنا أصبحت سهلة هادفة متطورة متجاوزة حتى ما وصلت به إلينا من قدرات وجمال. يسري هذا على الفصحى مثلما يسري على العامية التي هي لغة شفاهية فائقة الجمال كاملة المواصفات أيضا.
إن الله لا يغير ما بقوم -بما في ذلك لغتهم- حتى يغيروا ما بأنفسهم. إن استعادة حيوية وإبداع وفاعلية ومرونة لغة ما هي نتاج استعادة أهل هذه اللغة لكل ذلك ممارسة موضوعية ناقدة هادفة مبدعة، أما تلك الإسعافات المتعجلة الضجرة فهي تأجيل للمواجهة، ناهيك عن احتمال التشويه، والرقص على السلم، والتخلي عن الهوية.
الأهرام: 9/8/2004
اقرأ أيضا:
ست الناس.. والدستور.. والمواطنة!! / تعتعة سياسية: استقالة وزير / تعتعة سياسية: ثقافة السلام وثقافة الحياة!!! / .... تشربها مادامت إنت ماليها !!!!(11)