بدأ تقليد ما يسمى الألعاب الأولمبية سنة 776 قبل الميلاد، كانت الفكرة هي البحث عن تنافس أرقى، فكان على كل ولاية أن ترسل أفضل رياضييها ليتنافسوا على شرف الإله زيوس بديلا عن الحرب. لكن هل نجح ذلك؟ وإن كان قد نجح قديما هل ينجح الآن؟ حروب اليوم تبدو أقل قسوة بينما هي أقل فروسية، وأخبث حيلا، وأخفى وسائل، وأعم إبادة. لم أتابع أوليمبياد أثينا لأسباب شخصية، لكنني شاركت الجميلة نهلة رمضان في أحزانها وأحزان من حزنوا لها ومعها، كما تابعت فرحتنا بإنجاز كرم جابر وزملائه، وإن كنت قد رفضت أن يكون في ذلك ما "كسر نحس صفر المونديال". ما علاقة هذا بذاك؟ الأول إنجاز فردي رائع، وراءه تدريب مثابر، والثاني إعلان عن مدى قدرة نظام دولة ما على تنظيم جماعي محكم، يصلح لاحتواء حركة مئات الألوف من جماهير العالم مع بضع مئات من اللاعبين...الخ.
منذ قديم، وأنا أراجع مسألة استعمال الجسد لغير ما خلق له، حتى لو سمى ذلك إعجازا أو إنجازا، كما أراجع مسألة التنافس ومجالاته ومعناه وفائدته، ظللت دائما أتحفظ على فكرة تنافس الأحياء على مبدأ البقاء للأقوى – برغم انتمائي للفكر التطوري. إنما البقاء للأنفع لنفسه ونوعه وللحياة تناسبا وتناغما مع نبضها على مختلف المستويات: حتى مطلق اتساع الكون الأعظم سعيا إلى وجه الحق تعالى.
كنت -ومازلت- أنهي مرضاي عن لعبة كمال الأجسام، متضمنة رفع الأثقال، حتى لا يزداد تمركزهم على أجسادهم فذواتهم، دون الناس والطبيعة والكون الممتد. أتحفظ أيضا على الملاكمة والمصارعة لعجزهما عن استيعاب إيجابيات غريزة العدوان الرائعة في إبداع فائق. (العدوان والإبداع :الكاتب: "الإنسان والتطور" يوليو1980).
ما كان يشدني -رغما عني- في الألعاب الأولمبية، هو منظر الصغيرات الفاتنات الرشيقات وهن يرقصن في الهواء رقصات الإعجاز الجميلة في تنافسات ألعاب القوى، لكنني وجدتني بعد الانبهار والاستغراب أنزعج انزعاجا بالغا أن تصل بنا شهوة الفرجة والتنافس أن نستعمل أجساد هؤلاء الصغيرات بمثل هذا الامتهان القاسي، يبدأ تسخير الصغيرة منذ سن الثالثة لتكسر الرقم القياسي في سن الثامنة عشر بواحد على ستة عشر من الثانية- مثلا!! ما معنى هذا؟ ما جدوى هذا للفتاة نفسها، وليس لمدربها ولا لوطنها، من أجل ماذا؟ بديلا عن الحرب؟ لا يا شيخ؟!!
قرأت ما أسموه مأساة فشل نهلة رمضان، وأنا أستمع لجسدها وهو يقول لكل هذا أن "لا". احترمت هذا الفشل احتجاجا على التشويه والاستعمال والفرجة المفرغة من غايتها. على الناحية الأخرى: خشيت أن تخدعنا فرحتنا بالإنجاز الفردي لكرم جابر وزملائه عن عموم سلبياتنا "الجماعية" في الإنتاج والإبداع والتعليم والعمل والرياضة.
الجسد البشرى ليس أداة لغيره، ولا هو البنية الأساسية لعمل المخ، ولا هو نقيض الروح. منذ خلط صُهَيب الإيمان بلحمه ودمه، حتى إنجازات العلم المعرفي الأحدث الذي يتكلم عن "الفلسفة منغرسة في اللحم الحي" (لاكوف)، والجسد مشارك فاعل في عملية التفكير والمعرفة والوجدان والإبداع جميعا، هكذا تكلم جسد نهلة حين فشل، وكذا تكلم جسد جابر بالتفوق الجميل. مع أنه مازال إنجازا فرديا للأسف.
قراءات أخرى لازمة عن علاقة الإنجاز الأولمبي بالاقتصاد بالإنتاج بالإبداع. الولايات المتحدة جاءت أولا ثم الصين، الأرجح أن نفس الترتيب هو كذلك في الاقتصاد والإنتاج والإبداع، مع اختلاف النظام السياسي.
نحن نحتاج إلى تحديث معنى التنافس بما يليق بمسيرة وآمال الإنسان المعاصر فنعرف أين وكيف نستلهم من جديد ما هو: "وفي ذلك فليتنافس المتنافسون".
نشرت في الأهرام بتاريخ: 6/9/2004
اقرأ أيضا:
الدين: تسكين أم إبداع / حكومة ذكية أم دولة منتجة؟ / تعويذة: ضد اليأس!