هل يمكن أن أنسى رسالة الشاب الذي كان ينكح أخته فلما أفاق ضميره هداه عقله العشريني، ونصحه الناصحون بالسفر إلى العراق ليموت شهيدا، وتنحل مشكلته!!
تذكرته وأنا أتابع الجدل الدائر حول الغرقى من شبابنا الذين هربوا من أوطان تلفظهم إلى أوهام تلاحقهم عبر حكايات الأقارب عن الذين وصلوا إلى بر الأمان حين وطأت أقدامهم شاطئ الشمال بعد أن عبروا المتوسط بطريقة أو بأخرى!!
مفتي الديار قال أنه لا يستطيع اعتبارهم شهداء، وقد ألقوا بأيديهم إلى التهلكة حين سافروا دون أدنى مراعاة لاعتبارات السلامة، أو الإجراءات القانونية المفترضة لمهاجر!!
واجتمع مجمع البحوث الإسلامية في جلسة طارئة ليقرر "مصير" الغرقى، وانتهى ولله الحمد إلى أنهم "شهداء" مثلهم مثل أي غريق!!
طلبت مني جريدة ألمانية اشتراكية التوجه أن أكتب لهم مقالا منذ عدة سنوات، ولم أجد عنوانا للمقال أنسب من: "الشرق الأوسط: لا شيء سوى الموت!"
موتى بنعش واحد يدعى الوطن
أسمى سماءه كفن
بكت علينا الباكية
ونام فوقنا العفن
لا أمل لنا في الحياة فيكون الجدل الدائر كيف نكون شهداء؟!
وتتخلص مشكلة الشباب الغرقى، والأوطان الغرقى في تصنيف الموتى ـعلى كل حالـ إلى شهداء وغير شهداء!!
هل كلام المفتي يحرم أهالي الغرقى من السلوى والعزاء بأنهم شهداء أم أنه يرفض ضغط الرأي العام، ويواجه الآخرين والصحافة والمشايخ بحثا عن العقل الغائب في اندفاع هؤلاء إلى مصير بائس ظاهرةٌ علاماته من البداية وضاغطاً وحده لمصلحة تنظيم أفضل وأحكم للهجرة، واعتبارات أولى للسلامة!!
هل أصيبت كل أجهزة الدولة بالخرس والعجز وانعدام الفاعلية إلا الداخلية ودار الإفتاء وماذا تفعل الفتوى كأداة توجيه وتدخل في حياة المجتمع؟!
ماذا يفعل رأي الفقه والفقهاء وسط منظومة من الانسحاب وانهيار الأداء العام في كل مجال؟!
هل مطلوب أو منتظر من المفتي أن يقوم مقام غيره ممن لا يقومون بأدوارهم؟!
هل المفتي بلا قلب كما يصفه مانشيت جريدة أم هو يريد إيقاظ العقل العام بدلا من تخديره بحقنة: رحم الله شهداءنا، ودمتم!!
ومن الذي يجامل السلطة ويرضيها ويخفف بالفتوى عنها؟!
هل هو من يطيب خواطر أهالي الضحايا بصك غفران لحبيب غرق، أم من يدين هؤلاء الضحايا، ومن ورائهم منظومة مهترئة من إجراءات سلامة غائبة، وتطلعات عيش آدمي إذا سلمت الجرة، ولم تغرق السفينة التي تبحر بالكاد، وتغرق غالبا!!
ولا يدين أوطانا ظالمة مظلومة تشرد أبناءها في أرجاء الأرض، وخيرها لغيرهم موفور ومبذول ومغدق!!
وإدانة الغرقى أو الترحم عليهم، الحكم عليهم بالخطأ أو منح وسام الشهادة، هل هذه هي القضية؟!
وهل هذه هي الأدوار والآراء والاتجاهات التي نتوزع بينها حين نناقش مسائل مثل الفقر الضاغط المنتشر، أو عشوائية القرار والتفكير، أو فساد الإدارة والتدبير رسميا وأهليا!!
المجتمع الذي غاب عقله، وتفككت أوصاله، وغاب الرشد عنه، رعاة ورعية، فذهب يناقش ما لله وحده، وترك ما لقيصر، وما عليه، وما للناس، وما عليهم!!
والعجيب هو الاستعداد العام للدروشة حتى يبدو أنها قد صارت حالة عامة أصابت الأغلبية الساحقة بوعي، أو بغير وعي!!
وأعني بالدروشة إحلال المفردات الغيبية والدينية محل الأخذ بالأسباب ومحاسبة المخطئ وتخطيط العيش!
ودروشة العقل العام والنقاش العام جريمة لا يدينها أحد ونتواطأ فيها فلا مسئولية ولا مسئول بحق، ولا نقاش إنما حلول بصدق، إنما نسأل عن أشياء لا يترتب عليها العمل، ونترك الجوانب الأهم، والأولى بالنقاش في كل مسألة!!
إنها ثقافة "قعدات الجوزة والشلتة وكوباية الشاي ساعة العصاري" حين يسترخي عقل كسول أو منهك، في فرد أو مجتمع يهرب من مهامه أو أداء وظائفه المعطلة أو الغائبة، وحين تستقيل الدولة فلا تضبط ولا تحكم، ولكن تترك حياة ناسها في حالة "السداح مداح" كما قال أحد أقطاب الحكم من شهور!!
وحين يعجز الناس إلا عن دفن الموتى!!
هل تبقى أوضاعنا المنهارة لتزداد أعداد الغرقى / شهداءً كانوا أو غير شهداء، وتزداد ضحايا الإهمال والأوهام وسوء التفكير والتدبير الرسمي والأهلي، الفردي والجماعي!!
هل نقول لشبابنا ألقوا بأنفسكم في المتوسط فإذا وصلتم صرتم أغنياء، وإن غرقتم فأنتم شهداء؟!
أم إن الأحياء هم الأولى بالتفكير والإنقاذ؟
اقرأ أيضًا:
على باب الله: عن التغيير والفوضى/ على باب الله: للمصريين: إذا كان ثمة أمل!!