من أحدث جدالات المصريين ما اشتعل في أعقاب عرض مسلسل درامي عن الملك فاروق الأول والأخير حيث انقسم الناس ما بين مترحم على أيام "مولانا المعظم"، وبين لاعن له ولعصره، ووسط الضجيج تضيع الحقيقة كما هي العادة في مصر المحروسة التي لا تقطع عوائدها!!
والحقيقة أن مصر عاشت في عصر فاروق حياة هي نموذج للدولة الضعيفة المحتلة والمجتمع القوي المضطر بالتالي لإدارة شئونه بنفسه تعليما وصحة وتصنيعا.. إلخ.
ولم يكن لفاروق ولا أبيه ولا أجداده أي فضل في قوة المجتمع الذي راكم أسباب وأساليب بقائه، كما لم يكن لدى القصر مشروع بناء دولة حديثة ينهض فيها الجهاز الحكومي بالوظائف الاجتماعية والثقافية والتنموية!!
في الحقبة التالية لفاروق تم تفكيك هذا التراكم والزخم الأهلي بما كان يحمله من عناصر القوة والضعف لصالح إقامة الدولة الحديثة التي انكسر مشروعها بدوره بهزيمة حرب الأيام الستة لنعيش في حقبة ثالثة بعدها يمكن استنتاج وفهم كيف أنها حقبة "اللادولة، واللامجتمع" حيث تم تفكيك الدولة المنكسرة كرامتها عسكريا في يونيو 1967 باسم التحرير الاقتصادي، الذي اسمه في رواية أخرى "الإصلاح"، والذي لم ينعكس بشيء إيجابي على حياة الملايين من أبناء مصر الذين ضاعوا كالأيتام على موائد اللئام بين دولة مفككة ومنهارة وعاجزة، ومجتمع فقد لأسباب عدة قدرته على المبادرة، أو الاحتشاد باتجاه هدف أو حول مشروع أو حتى حل مشكلات حياته اليومية!!
ولعقود ممتدة دخلت مصر متاهة اختلطت فيها الضحكات بالعويل، والهزل بالنواح، وكان من ملامحها البائسة ذلك الصدام النكد بين أجهزة أمن دولة تشعر بالضعف والهوان فلا تجد غير مجتمعها المنهك أصلا، فتتحرش بمحاولات التغيير فيه، تلك المحاولات التي شابها هي الأخرى قصور فادح في ناحية أو أكثر فصارت تشبه الدولة في جمودها وتعثرها، وأسفرت المصادمات عما نراه حولنا من حصاد الهشيم على المستويين الشعبي والرسمي!
وإذا كان ثمة أمل فإن مصر لم تعد تنتظر ولا تتوقع ولا تأمل، بل تتمسك باليأس حصنا وحصانة من خيبات الأمل!!
إذا كان ثمة أمل فإن مصر تحتاج إلى دعم وإنقاذ، أو بالأحرى علاج شامل وعميق وممتد!!
مصر تحتاج إلى دولة مدنية فعالة وقوية، ومجتمع أقوى، ونرى أن هذا العلاج يحتاج إلى طرح طموح وجرئ وجديد يتناسب مع التحديات والتراكمات والترهلات الحالية.
ويحتاج هذا الطرح إلى تركيز الجهود والأفكار حول سبل دعم الأداء الوطني، وعلاج أمراضه سواءً على مستوى الأداء الرسمي أو الشعبي، وبالتالي فهو يخرج نفسه تماما من المعركة البائسة بين أجهزة الدولة، وفعاليات أنشطة الأمة!!
ويشغل نفسه بمقترحات وبرامج تطويرها معا ويحتاج هذا الطرح إلى الانفتاح والمرونة في التعامل مع العالم المعاصر ومتغيراته، وبالتالي فإن عليه مهمة التوازن في مواجهة الوافد المتنوع الضاغط، كما في مراجعة الموروث قديماً وحديثاُ كما سيحتاج إلى قدر غير قليل من اجتهاد وإبداع صيغ وأساليب لمواجهة مشاكلنا المزمنة والمتراكمة، وبالتالي فإن الفكر الفاعل هو مسألة حياة أو موت لهذا الطرح.
ويحتاج هذا الطرح أيضا إلى حسم الاختيار لصالح إسلام مدني يعتمد العقل والمعاصرة والتجديد والبناء في مواجهة محاولات تهميش الإسلام في حاضر أمته، وكذا في مواجهة إسلام التعصب والجمود والبغي والطغيان والصراع مع العالم كله تحت راية رعونة تسمى نفسها جهادا، والجهاد منها بريء!
ولا مناص من أن يستوعب هذا الطرح دروس الأخطاء، وجراح الحماقات، وتجارب الفشل فيلزم نفسه بحزم لا مكان فيه لطرفة عين بأنه لا سرية ولا عنف ولا نخبوية ولا محسوبية ولا جمود بعد اليوم، وبدلا من المثالية الساذجة أو التعميم المضلل فإن هذا الطرح لابد أن يعتصم بالعملية، ويفصل بأنه طرح مصري لوطن هو مصر، وفي تلك اللحظة الراهنة بكل ما فيها، إذن فهو طرح محدد وموجه وواضح.
إذا كان ثمة أمل فهو في هذا الشعب الطيب المنهك، ليس لدينا شعب غيره فنستبدله أو نستورده، ولا نعرف لنا وطنا غير هذا فنقفز منه ونحن نراه يغرق!!
وكل الذي نريده.. فرصة للحركة والحوار مع وبين الناس بهذه الأفكار والتحديات والمشاريع في مرحلة حاسمة وحساسة من تاريخ هذا البلد المضغوط حكومة وشعبا، وهو الأمر الذي يحتاج إلى مزيد حوار، وتفكير عاجل وعمل، إذا كان ثمة أمل!!
واقرأ أيضاً:
على باب الله: عقول معطلة.... وأوطان تغرق / على باب الله: ستر العورة!!