قد يظن البعض أن هذه الرسالة من خلف أسوار السجن ولكن الواقع أن أصحاب هذه الرسالة لم يرتكبوا أي جريمة، إن جرمهم الوحيد هو عقلهم أو لنقل في فقدان عقلهم هذا إن صح التعبير فما رأيته هو رقة في الطبع ورضا لم أره عند كثيرين ممن أكرمهم الله بنعمه التي لا تحصى.
هل تراك فكرت يوما أن تعود كطفل صغير لا....لا أقصد أن يعود قلبك إلى مرحه وانطلاقه؟ بل أن تعود كطفل صغير يتحكم الآخرون في حياته, هل تصورت يوما أن تحيى في مكان واحد لا تغادره ربما لسنوات طوال وربما لا تغادره على الإطلاق? هل تصورت يوما أن يقف على بابك حارس يأمرك فتطيع أو أن تصبح مسلوب الإرادة حتى في أبسط الأشياء?, أو أن تصبح أقصى أحلامك هي فسحة في حديقة المستشفى التي تقيم بها سنوات
وكيف تشعر برمضان وكيف يمر عليك العيد وأي أمل الذي تحيى عليه إن كان أهلك قد قرروا أن يتركوك هكذا حتى الموت?
هذا هو حال بعض نزلاء مستشفيات الأمراض العقلية والذين توقف أهلهم عن زيارتهم وقرروا عدم استلامهم من المستشفى على الرغم من تحسن حالتهم وأنهم لا يشكلون أي خطر على أنفسهم أو المحيطيين بهم.
كانت دقات قلبي تتسارع وأنا في طريقي إلى هناك فهذه المرة الأولى التي أدخل فيها مستشفى للأمراض النفسية، وما نسمعه ونشاهده في الأفلام العربية يجعل الأمر تجربة محفوفة بالمخاطر وللحق فما لفت انتباهي هو نظافة المستشفى كذلك....فالأَسِرَّة بحالة جيدة ربما أكثر ما يضايقك هو الإضاءة في العنبر فالإضاءة ليست جيدة، نتيجة النوافذ العالية والمغلقة باستمرار.
العنبر عبارة عن ممر طويل يوجد به عدد من الحجرات على جانب واحد منه، وقد تم اقتطاع الحجرات من هذا الممر ولا وجود للأبواب فأنت تستطيع أن ترى جميع نزلاء العنبر بمجرد مرورك في الممر. وفى نهاية كل عنبر يوجد باب حديدي يجلس عليه حارس باستمرار يمنع دخول أو خروج المرضى.
يبدأ اليوم عادة بالاستيقاظ صباحا ثم الإفطار وتناول الدواء ثم الخروج إلى حديقة المستشفى حتى الثانية عشر ظهراً, بعدها يكون الغذاء والبقاء في العنبر حتى وقت العشاء والنوم. كذلك هناك مسرح وسينما تقدم عليه بعض العروض أحيانا ً.
فى أثناء تجوالي في أرجاء المستشفى وجدت غرفة كبيرة قد كتب عليها العلاج بالعمل وقد وضع بها بعض الخيوط والأنوال وكانت هناك بعض المريضات اللاتي يعملن.....اقتربت من إحداهن وهى ماما (ب) في السابعة والأربعين من عمرها -وإن كانت تبدو أصغر- كمن ذلك بشوشة الوجه في وجهها طيبة تجذبك إليها.
_سألتها إن كانت متزوجة؟
- قالت: أنا مطلقة وعندي ثلاث أبناء ذكور; أنا هنا بقالي خمسة شهور طليقي وأمي هما اللي جابوني هنا.
- سألتها إن كانت مبسوطة هنا?
- ردت فيه حد يبقى سعيد في السجن نفسي أخرج حموت وأسمع صوت أولادي ربنا ما يحرمك من أولادك ولا يكتب على حد اللي أنا فيه محدش بيجى يزورني حتى أمي لو أمي بتحبني كانت خرجتني من هنا أو على الأقل جت تزورني ممكن تأخذي نمرة طليقي وتكلميه يخليني أسمع صوت أولادي?
- اعتذرت لها فلم يكن معي حقا رصيد في هاتفي المحمول.
- ثم تكمل حديثها إليّ: أنا زوجي متجوز وامرأته دائما تحرضه ضدي أنا بروح لحد البيت وأنده على أولادي علشان ينزلوا ويسلموا عليه هما بيستكتروا عليا حتى أني أشوفهم.
تركتها وأنا متألمة حقا من موقف أسرتها
جلست بجوار مريضة أخرى (س) تبدو في الخامسة والثلاثين من عمرها من إحدى قرى الوجه البحري.
- سألتها إن كانت متزوجة?
- لا أنا لسه متجوزتش.
أنا شاطرة قوي وبعرف أعمل كل أنواع الأكل لكن لما بيجى المرض مابعرفش الأيام من بعض, عارفه أنا جالى عرسان كتير قوى لكن أمي كانت بترفضهم ولما سألتها ليه كده ردت اسكتي أنا عارفه همك وخبتك حتتجوزى أزاى?
أنت عارفة أنا خرجت مرة بالليل من غير مايعرفوا في البيت وطلع عليا ثلاث رجالة ضربوني وخلعوا الحلق وأخذوه وتشير إلى أثار الجروح في قدمها ووجهها, ولما رجعت البيت عمى ضربني وجاب جنزير وكتفني وأقفله بالقفل والصبح جابني المستشفى, أختي هي الوحيدة اللي كانت بتيجى تزورني لكن هي حامل دلوقت متقدرش تيجى تزورني.
- فقلت لها: ياه أنت تعذبت كثير قوى
- ردت أنا اللي شفته ماشفهوش رجاله كبار عارفه في المستشفى باعتوا لأمي علشان تأخذني قالت لهم هي هنا عايشة وهناك عايشة خلوها عندكم!!!!!!
أما زميلتها (ع ) فهي تبدو في الثلاثين من عمرها من أحدى قرى الوجه البحري.
- قالت أنا كنت متزوجة وعندي ولدين توأم في العاشرة أنا اللي طلبت الطلاق من زوجي المرضى اللي زينا حرام يتجوزوا ويعذبوا الناس معاهم أنا مكنش في حد في عقلي وفجأة من أول يوم زواج وأنا أسمع أصوات وأرى رجل لا يراه غيري، كنت دائما أحس أنى مش طاهرة والدي لما كان يحصل لي تهيج كان يضربني كنت بحس بسعادة وقوله كمان يابا أضربني كمان!!!!!, أنا هنا من خمسة شهور لما أخف أهلى حايجى يأخذوني.
- سألتها: ليه متأخديش الدواء بانتظام لما تخرجي علشان مترجعيش المستشفى.
- ردت: أفعل; لكن أى فرح زيادة أو زعل زيادة بيرجع المرض ثاني, أنا بحمد ربنا أنا أحسن من ناس كثير عندهم أمراض أصعب وبتعذبوا.
كان قد مضى على بقائي معهم أكثر من ساعة لم أشعر خلالها بالوقت على الإطلاق ودعتهم على وعد بالحضور قريبا, وأثناء سيرى في أحدى الممرات كنت أسمع صرخات صادرة من أحد العنابر القريبة.
حين اقتربت وجدت فتاة صغيرة ربما في الثامنة عشر على الأكثر كانت تقف عند الباب الذي يفصل العنبر عن باقي المستشفى وقد أخذت تمد يدها من خلال القضبان كانت تشير إلى سيدة تبدو على الأرجح أمها ومعها فتاة أخرى استنتجت أنها ربما تكون أختها وتطلب منهم عدم المجيء إلى هنا مرة ثانية!!!!
كانت تنادى على شخص وتعده بالخروج من أجله استفزتني نظرات السخرية في عين الحارسة التي تقف على الباب وقد أغلقته بأحكام لا أدرى تمنيت أن أذهب لأحتضنها وأخبرها أن كل شيء سيكون على ما يرام ولكنني خفت أن أفعل ذلك لا أدري لماذا ؟
تابعت سيرى كان هناك رجل يقف على باب العنبر يتوسل إلى الحارسة أن تسمح له بالذهاب لشراء سجاير وهى تنهره وتأمره بالبقاء مكانه
- كان يقول: معلش دقيقة واحدة.
- قلت: لا ادخل على جوه يعني ادخل على جوه...
لا أدري لماذا شعرت بالشفقة من أجله ربما لأني تصورت نفسي في هذا الموقف لا أتصور أن يتحكم أحد في تصرفاتي إلى هذه الدرجة!!!!
أحد المرضى يبدو في العشرين من عمره يظنني طبيبة في المستشفى يبدو أنه حضر منذ عدة أيام فقط يقول لي والنبي كلميهم دول عايزني أنام طول النهار ومخليني قاعد في العنبر على طول,.......... لا أدري بماذا أجيب فأستمر في سيري!!!
بعض المرضى كانت ملابسهم بالية والبعض كان حافي القدمين لا أدري عن رغبة منه أم أنه لم يكن يملك ما يرتديه, أسرعت الخطى نحو بوابة الخروج حيث أتنفس بحرية وأرى الشمس وكأنني أراها لأول مرة وأحمد الله على أنني خارج هذه الأسوار وأن كنت أرى أن حريتي منقوصة فهي أفضل بكثير من حياة البعض خلف الأسوار.....
ويتبع >>>>: رسالة من خلف الأسوار مشاركة
واقرأ أيضًا:
شروق وغروب / لا للتطبيع / هذا الشعور بالخوف المبهم / يوميات طالبة في كلية الهندسة