أما قبل: ما معنى كلمة يتخثر؟
الأسهل أن نتذكر الكلمة العامية التي تستعملها الأم الفلاحة وهي تلوم ابنتها أنها لا تعرف كيف "تغلي اللبن"، إذا استعملت ناراً هادئة، أو طريقة خاطئة، حتى تجعل اللبن يقطّع، أو "يجبّن". الذي رأى هذا المنظر يعرف أن اللبن السائل (خاصة إذا كان دسما. من ثدي الجاموسة مباشرة) المتماسك القوام، الحاضر النكهة، المليء بالحنان والوعد، قد انقلب إلى قطع متعددة متناثرة لا تصلح لا للشرب، ولا لأي شيء آخر، الذي خبر ذلك يعرف معنى أن "اللبن جبّن". أحيانا تكون هذه الفلاحة أكثر حدة وهي تقول لابنتها: "الله يخيبك" والله ما أنت نافعة، شوفي اللبن قطّع منك إزاي؟
تذكرت هذه الظاهرة وأنا أبحث عن أي شبكية ضامة تجمع الناس، ناس هذا البلد الكريم، إلى بعضهم البعض، هذه الظاهرة هي التي دفعتني لاستعمال هذه الكلمة، أكثر من استعارتها من الدم حين يتخثر (يتجلط).
كان ينبغي أن أؤكد للقارئ ابتداءً هذا المعنى الذي استلهمته من العامية المصرية "جبّن، أو قطّع" لأن المعنى بالفصحى لكلمة خثر هو" تَخُن وغلظ"، صحيح أن الوعي القومي عندنا تخن وغلظ حتى البلادة، إلا من الفقاقيع التي تظهر على سطحه، والتي قد تدل على فساده، ولكن الذي أعنيه أكثر هو أن الوعي القومي قد "جبّن، وقطَّع" والذي كان قد كان.
اللبن حين "يتقطع" لا يعود لبنا نافعا لأي شيء، والوعي إذا تخثر لا يعود وعياً قادرا على أي شيء.
كيف يتكون الوعي العام وكيف ينمو ويتطور؟
كنت دائما أكرر توصيفا للمثقف والثقافة، أحدّثه بين الحين والحين، حين اعتبر أن المثقف (من غير صفوة المجلس الأعلى للثقافة) هو الذي يمثل جُمّاع وعي ناسه، وهو الذي –المفروض يعني- يدفعهم إلى أحسن الممكن وما بعده، حتى لو كان أمّيا لا يقرأ ولا يكتب، تُرَى ماذا أعني بتعبير "جُمّاع وعي ناسه"، هل لهذه المجموعات –الكتل المتناثرة- الآن وعي خاص يجمعهم إلى بعضهم البعض؟
الإجابة هي "نعم طبعا"، لكل جماعة وعي يجمعهم، فثقافة تصفهم.
طيب!!، فهل يوجد وعي عام يجمع ناسنا إلى بعضهم البعض وإلى وطنهم؟
الإجابة هذه المرة هي بالنفي؟
ليس معنى ذلك أنه انعدم هذا الوعي المشترك، فهو يقفز رغما عنا ليثبت وجوده بين الحين والحين، مثلا: في الحرب قبل أن تجُهض ، وفي كأس الأمم الأفريقية حتى يهرب الحضري وتهرب معه نوبة يقظة الوعي تسكينا.
وغير ذلك من مثل ذلك.
ماذا يتبقى بعد فورات الكرة، وانتفاضات القتال أو الحجارة أو الجوع؟ ماذا يجمع الناس، ناسنا نحو ماذا؟ حول ماذا؟
دعك من حكاية المشروع القومي الغائب وصحف المعارضة الصارخة ألما أو سخرية أو سخطا، ماذا يجمع الناس حول ماذا؟
أصبحنا الآن نعيش مئات الثقافات (إن لم يكن أكثر) وكل ثقافة لها عشرات التنويعات والتشكيلات لوعيها الخاص؟
عندنا ثقافة الميكروباص، وثقافة الإدمان، وثقافة الروشنة، وثقافة الحجاب (وإن تعددت بداخلها ثقافات فرعية كثيرة) الوعي العام "جبّن"، قطّع، تخثر، أصبح قطعا غليظا مفتتة لا يجمعها إلا جدار إناء هش. خذ عندك من بعدٍ آخر:
ثقافة الساحل الشمالي، وهي تختلف عن ثقافة العين السخنة، وثقافة المنتجعات الجديدة، وثقافة المدن المستوردة البعيدة، هل لاحظت الإعلان بالانجليزية عن مدينة "كذا" في ضواحي القاهرة مثلا: وهو يحمل كلمات تقول "عذرا ليست لكل أحد" Sorry, not for everyone، هذا تنبيه ألا تقترب بثقافتك المجهولة الهوية من الثقافة الخاصة جدا لهذا المجتمع، وذلك في مقابل ثقافة عزبة القصيرين وثقافة حارة السكر والليمون، وثقافة قرية تَفَهْنَا العزَب،.. أو كوم يعقوب.
على مستوى التعليم خذ عندك: ثقافة مدارس اللغات (وداخلها أيضا ثقافات متعددة) وثقافة مدارس التجهيل، وثقافة مدارس الغش الجماعي، وثقافة الجامعات الرسمية، وثقافة الجامعات الخاصة،....... إلخ..... إلخ
كيف يمكن أن يتجمع من كل هذا ثقافة واحدة موحدة؟ وعي عام؟
كيف يتخلق من هذا وذاك ما يسمى وطنا حاضراً، وليس مجرد تاريخ؟
ما الذي يجمع كل هذه التنويعات من الثقافة والوعي في واحد ضام يسمى "الوعي العام"، وهو غير المشروع القومي، غير الوطنية الهتافية الغنائية، وغير ادعاء المواطنة،
ما الذي يجمعنا وقد تخثر الوعي إلى كل هذه القطع المتباعدة؟
الإعلام التشتيتي؟، الأحزاب الوهمية؟، مظاهرات الجوعى؟، نار الغلاء؟، ظلام اليأس؟ الأمل العنيد المشترك؟ الدين الرسمي؟ الدين الشعبي؟، أحزاب المعارضة؟ ربنا؟
نشرت في الدستور بتاريخ 5-3-2008
اقرأ أيضا:
الشعور بالذنب في السياسة والحرب / سياسة دي يا يحيى؟!؟! / الحلول الذاتية: نعمل إيه ؟ نعمل جمعية !!