أودع شهر الرسول، وقد مضى شاهدا على بؤس حالنا، صرت أعاف النقد لأن الأغلبية تستقبله وكأنه نواح، وما يلبثون كثيرا حتى ينخرطوا في طقوس المندبة: صراخ وبكاء وعويل، وشق جيوب، ولطم خدود، وضرب للأجساد فيما يشبه ممارسات بعض الشيعة يوم عاشوراء!!!
ويسيل الدم، بعض الدم المادي أو المعنوي فتستريح الأجساد والأرواح والعقول المنهكة لبعض الوقت دون أن تنحل أية مشكلة، وهكذا دواليك نكرر دون ملل تلك الطقوس من حين إلى حين!!
كلما قرأت كلمة نقد للحكومات أو حتى الشعوب تحسست قلمي ورأسي وأشفقت على الناس لأن عقولنا مؤهلة لاستقبال الحزن والإساءة إلى الذات، وما زلنا حديثي عهد بطقوس الزار حيث تنخرط النساء ـوالرجال أحياناـ في رقصة واحدة على إيقاعات صاخبة يهزون الأجساد هزا عنيفا حتى يسقط الجسد تلو الجسد من إعياء المجهود، وبعد تفريغ شحنات التوتر والكبت والحرمان ـحتى من الشكوىـ وقد صار لدينا مجالس وحضرات لممارسة الزار بشكل مودرن في برامج فضائية، وجرائد متخصصة في تفريغ الغضب بحلقة زار أو حتى أذكار، دون أن يتغير شيء!!!
والبديل أن نكف عن ممارسة هذا لا لمصلحة الغيبوبة السائدة منذ عقود، ولكن لإقامة واحترام وإطلاق ودعم الفعل الفردي المبدع المبادر اشتباكا مع المشكلات، والتواصل الهادئ الدافئ الداعم بين الناس في ملايين الأفعال التي يمكن أن تشيع البهجة بممارسة فعل نافع وممتع وبناء!!
صعبة دي؟! هذا أصعب أم حالنا الذي يصعب على الكافر؟!
وصلتني رسالة من فتاة أعرفها، ونص الإيميل عبارة عن معلومات تزعم كشف حقيقة نجمات الرومانسية العربية من "فيروز" وحتى "باسكال مشعلاني" مرورا بالأخريات، والمعلومات الواردة في الإيميل ـلو صحتـ لكانت كافية لمقاطعة كاملة لهؤلاء على خلفية عداواتهن السافرة للإسلام والمسلمين كما يذكر الإيميل من وقائع!!
قرأته ثم تمهلت وتأملت في كيف نتعامل مع عقولنا!!
وكيف نحترم عقول الآخرين؟! وكيف نحن من الحقائق والحقيقة؟!
نموذج بسيط، ولدينا أفدح منه بكثير يوميا من كلام نتداوله على أوسع نطاق يطلقه بعضنا دون أدنى احترام لتوثيق أو تدقيق، ويمرره الآخرون هبلا أو حماسا دون بصيرة، ولتذهب الدنيا كلها إلى الجحيم بسبب "نوايانا الطيبة" وعقولنا الخربانة الخاوية من معاني التفكير، وأبسط أدوات ومكونات العقلانية الإنسانية أصلا!!
اختلط الحابل بالنابل، والكلمة العليا هي للغباء والجهل والاندفاع، والقبائل وأصنام القبائل، والنتيجة أن كل شيء حولنا وتحتنا ولنا يتفكك بسرعة عجيبة، ولم لا وحصاد التخلف لا يكون إلا انهيارا متسارعا أراه وأصرخ فتضيع صرختي سدى إلا من بعض أصدقاء يؤنسون وحشتي بقولهم أحسنت!!
قرأت مؤخرا عن بعض البشر أتاهم الله القدرة على الشعور بالزلازل والبراكين قبل أن تقع، والمسألة بسيطة حيث تتوافر لديهم أعراض مرضية تجعلهم يشعرون لا بحصول الكارثة فحسب، ولكن بمكانها، وكم قال هؤلاء ولم يسمع أحد!!
ولكن مؤخرا بدأت أبحاث تحترم هذه القدرات وتحاول تطويرها واستثمارها!!
وأنا أقف مذهولا وسط ما أعتبره واضحا من نقاط وجذور خلل عميق ومزمن وكارثي، أرى مقدمات تؤدي إلى نتائج مفزعة ومروعة، وأصرخ وأحكي، ويتفاعل أصدقائي بقولهم: أحسنت!!
والمسألة لا تحتاج إلى قدرات خاصة لنكتشف أننا نحصد ما نزرع، وأننا ما نزرع إلا الحنظل والصبار والزقوم فكيف نحصد غير المرارة والأشواك ورؤوس الشياطين؟! مصر تتفكك بسرعة هائلة، وإيقاع متسارع، وأصحاب العقول فيها منقسمين يتهارشون فوق أرض لم تعد سوى خراب يتفتت، وهم ما زالوا يتهارشون ويتلاومون ويتخارسون عن قول الحق أو لا يكادون يدركونه من كثرة ما احترفوا وقارفوا ورأوا واستهلكوا أو تورطوا طواعية أو كرها في الباطل بأنواعه!!
مصر تغرق بسرعة، ومذهول أنا من أن أهلها إما أنهم لا يدركون هذا البتة، أو بعضهم يدرك، ولكن يقف مشلولا لا يكاد يحرك ساكنا، ربما لأنه لا يعرف كيف وماذا؟ أو ما العمل؟!
مصر مثقلة بالعلل وآثار العلل: الاستبداد يفككها، والتعصب والجهل والفرقة والإيمان المغشوش المزيف، وكذب الجميع على الجميع!!
تنهار فيها كل زاوية تحمل ذكرى جميلة، وتضيع فيها الحقيقة، وتدهس بالأقدام، ولا من شيء له جدوى ولا معنى ولا روح ولا طعم إلا بعض شباب وفتيات، رجال ونساء يحاولون جهدهم من أجل غد أفضل، بيننا وبينه أهوال لابد أن نخوضها، وأعمال لابد أن ننجزها، وأحوال مستقرة مسيطرة لابد من تغييرها!!
مساحات أخرى فارغة تماما بغفلة أو عن عمد تحتاج إلى انتباه سريع، وعمل كثيف، وإنقاذ عاجل.
نحتاج إلى حكمة تفوق النزق والرعونة والخفة التي تعالج بها قضايانا الكبرى!!
نحتاج بحق إلى تفكيك التخلف بعد معرفة جذوره وأصوله ومصادره!!
نحتاج إلى أخلاق جديدة نلزم أنفسنا بها غير تلك التي تعودنا عليها من تقصير وتسطيح وتهريج ونفاق وتمييز خاطئ بين رجال ونساء، فقراء وأغنياء، مسلمون وأقباط، إسلاميون وعلمانيون!!
هذه تمزيقات لا تصنيفات، لا معنى لها ولا دلالة، ولا نفع، وآن لنا أن نطوي صفحتها بلا رجعة!!
نحتاج إلى عقل وعقلانية، ورشد وحوار، إلى بعض من إنكار الذات وشجاعة الاعتذار والتنازل لنلتقي على بعض الحق بدلا من أن نتفرق فيضيع الحق كله كما يحدث يوميا!!!
والله أعلم.
اقرأ أيضا:
على باب الله: بعض أهوال القيامة/ على باب الله: غواية السرد 2/5/2008