كلام كثير تسمعه أو يقتحمك، يقال عنك زورا أو غيبةـ بهتانا يتردد في غيابك دون فرصة رد أو تعصب!!
في مناخ عام ضاغط بالإثارة والاستعراض على حساب الحقائق أحسب أن الكلام يفقد قيمته ووظيفته ومعناه، لأنه تمت برمجة العقول على استقبال الكذب والاحتفاء به، وعدم تدقيق الأقوال ولا القائلين!
لعله لم يعد مهما القيمة الحقيقية ولا المعاني الجوهرية ولا الأفعال البناءة، فقط الكلمات المنمقة، وطوفان الصور المرسومة بعناية! ليس مهما أن تنشغل بتنمية نفسك حقا، ولكن برسم صورتك، الصورة التي تحقق لك الرواج، وتجلب المديح، ولو كان تحتها مجرد بؤس وخواء، إنه عالم تحكمه الصور، وتصنع فيه القيمة والمعنى!!
وسط هذا العالم ألوذ بصمت جميل، وغير ذلك يحرمني من السكينة والتماسك والانسجام!!
ألا تهمك صورتك عند الناس؟! سؤال يلاحقني، وإجابتي دوما: بلى تهمني صورتي، ولكن يهمني الأصل أكثر، وإذا تعارض رضى الناس عن الصورة، والاتساق مع الأصل، إذا تعارض توحيد الله وإفراده بالتوجه والاعتبار مع نيل التعاطف، وتجميل الصورة، أختار الأصل، وأقول: حسبي الله ونعم الوكيل!!
أما الحقيقة فلها رب اسمه العليم الخبير هو أعلم بالسر وأخفى، ويظل إلزامي لنفسي، والتزامي ساريا فلا مجال للرد حول ما لا يجوز الخوض فيه ولو تلميحا، أو من باب التماس النفع بادعاء استخلاص الدروس!!
وليس لأن في الفم ماء كثير، وليس لأن هناك الكثير مما يقال في هذا أو ذاك نستسلم لغواية الرد على حساب العدل والحقيقة، ولمصلحة رسم الصورة اللامعة!!
صفقة خاسرة، وتجارة تبور، أو لعبة لا أجيدها، ولا أحب أن ألعبها، وأستغرب وأندهش ممن تغلبهم غواية السرد، ولكن في عالم رسم الصور، وإنكار الحقائق، في عالم تحركه الصورة وتصنعه الصورة ألتمس للناس الأعذار، والحمد لله الذي عافاني!!
ملايين الكلمات والصور صارت تغرقنا فكيف السبيل للوصول إلى شاطئ الأمان في عالم تغييب الحقائق، وتغليب الصور، والتلاعب بالكلمات، وتزييف الوعي، وتداول البهتان، واختلال المعايير؟!!
مبدئيا لدينا علم كامل وغائب تماما للأسف!! إنه علم تدقيق الرجال بالنظر في مسلكهم بحيث لا نأخذ علما عن منتحل، ولا ننقل خبرا عن صاحب مصلحة أو خصومة أو هوى دون تدقيق.
تدقيق الكلام وقائليه نهض به علم الجرح والتعديل ليعلمنا أن العلم والمعلومة والرواية لا تنفصل عن مصدرها، وللتدقيق معايير صارمة ومنهجية موضوعية، غير ذاتية بقدر الإمكان الإنساني، وهي عملية تحتاج إلى صبر ومتابعة، وعمق واختبار وجهد، وإذا غابت ضعنا واختلط الحابل بالنابل، ولا تسأل عن العلم وعن الناس وعن الحقيقة لأن سيادة هكذا مناخ بالضرورة ضد العلم وضد الحقيقة وضد مصالح ووعي الناس!!
إن هذا العلم هو محاولة للنفاذ إلى حقيقة البشر قبل الأخذ عنهم باب آخر فتحناه ثم نسيناه رغم أننا نحتاجه بشده هذه الأيام، وهو علم تدقيق الأفعال، أو بالأحرى تدقيق حقائق الأفعال، إنه علم كشف التدليس والتلبيس الذي يمارسه الوسواس الخناس أو النفس الأمارة بالسوء، وهو باب لا أعلم أن أحدا كتب فيه بعد "تلبيس إبليس"، ولم ينهض في هذا الباب رجال يستعيدونه ويجددونه، وهكذا نتخبط في تيه الحيرة والالتباس، وبدلا من التدقيق في حقيقة الرجال والأعمال أرى أننا غرقنا في تقديس القبائل والأصنام فعدنا إلى أيام الجاهلية الوثنية حتى أنني أتطلع إلى اليوم الذي أكتب فيه عن هذا الموضوع الهام الغائب، وثنية معاصرة حاكمة إننا نفكر ونتصرف مثل الغرب حين نتحرك في إطار متابعة أخبار النجم الأيقونة الصنم بدلا من مناقشة الأفكار، وتدقيق الأقوال والأفعال والرجال!!
لا نناقش أفكارا، ولا ندقق قيما، ولا تشغلنا المعاني..... نزعة النقد المنهجي التي أخذها الغرب عنا ونهض بتطبيقها في العلم فلا قول إلا ببرهان، ولا معرفة إلا مستندة على دليل، ولا دراسة لظاهرة إلا بمنهج، ولا إصدار حكم إلا بدقة صارمة وحازمة... هذه العقلية فقدناها واكتسبوها ومازالوا يسيرون عليها فينجحون متخلصين من كل العوائق والعقبات في طريق حرية البحث والنقاش والعلم والحوار، أما نحن فتكفينا الأصنام والقبائل!!
تكفينا الأساطير والأقوال المرسلة والتحليلات الساذجة! هم في مجال الميديا والترفية وحياة المجتمع لديهم أصنامهم أيضا، ونحن نعود إلى جاهليتنا الأولى في ثوبها الغربي الجديد المستورد حين نستبدل فنضع النجم / الأيقونة / الصنم مكان الفكرة / التدقيق / المنهج، إنه التوحيد يضيع في حقيقته سهوا دون وعي، وربما بتخطيط ووعي البعض لنغرق في التخبط، وقد هدانا الله وأعطانا، ولكن من يفهم ويتأمل؟!!
التوحيد قيمة وجوهر ومقياس، والصورة أيقونة، والحقيقة جوهر، وعبادة الصورة وتقديس النجم وطقوس القبيلة هي المعادل المعاكس تماما لإفراد الله بالعبودية ونتائج ذلك في تحري حقائق الأشياء والأفعال والأقوال والأشخاص، وعدم القول إلا ببرهان، وعدم الرد إلا بعدل بحثا عن مزيد فهم لا تجميل صورة، وبتدقيق صارم حاسم حازم من السارد والمتلقي، إنما الاختلاف والانقسام إلى قبائل تنتج أصنامها، وأصنام تصنع وتزين صورها، ولغو متداول يتوهم أنه يطرح قضايا بينما هو يسرد محض أساطير لا يلتزم القائل فيها معايير العدل والإنصاف، ولا يخطر ببال المتلقي أو السامع لها، بل لا يعرف معايير التدقيق والضبط للقائل وللقول، للتجربة أو الفعل، فتغيب أدنى ملامح التمييز بين البهتان، والنافع من القول!!
يصبح السارد مظلوم فاعل، وظالم لنفسه وللآخرين، والمستمع المتفرج مظلوم مفعول به، وظالم لنفسه، والحقيقة تضيع إلا عند الله الحق العليم الخبير، ولا يبقى لنا إلا اللغو تمتلئ به مجالسنا وعقولنا.
أهتف بالناس: يا قومي نزل كتاب الله لنفهم ولنتدبر، وأنتم تسمعون، وبعضكم يحفظ، ولكن لا تفقهون ولا تعقلون!!
يا قومي ممزقون إلى أشلاء في الأفكار ضائعين، وفي الأعمال تائهين، وفي الأقوال نتداول اللغو، ونحرك الألسنة بالكلمات، والأقلام بالحروف صادرين عن هوى، ونحسب أننا نحسن صنعا!!
اقرأ أيضا:
على باب الله: التفكيك والتفكك/ على باب الله: على الجنب... ورا