لم يكن هذا المشهدُ الحي الساخر المضحك المبكي إلا ليدون.... في العاشرة والنصف من مساء ليلة صيفية متربة (لأنها في الزقازيق.. أي في مدينة دون مستوى العواصم والمناطق السياحية، ومثلها أو أدنى منها بقية مدن مصر كلها)...... وكنت متعجلا في مشيي لألحق نشرة أخبار الجزيرة على شاشة التلفزيون في بيتي... ولم تكن من طريقة لي لأعبر شارع الجلاء الرئيسي في المدينة إلا اختراق سيل السيارات المتسرعة... بمجرد أن تحين فرصة في الطابور الأول ثم الذي يليه..... كان علي أن أنتهز أول فرصة في أول طابور سيارات فإذا عبرته وقفت بين صفيِّ أو طابوري السيارات أنتظر فرصة أخرى في الطابور الثاني..... خجلان كنت من نفسي وأنا أفعلها فغالبا ما لا يقف أو يهدئ أحد بسهولة في الطابور الثاني وربما الثالث من طوابير السيارات (غير المتوازية...) خجلت من نفسي أكثر عندما مرَّ بخاطري أني ألقي بنفسي إلى تهلكة بهذا الشكل... ثم خطر لي لا... لا... لا تضخم الموضوع لأنها ليست المرة الأولى يا عم وائل!.. فأنت غالبا متعجل كل يوم! وتمشي كل يوم
وعندما وصلت أخيرا إلى الرصيف المتوسط في شارع الجلاء... ثم سرت موازيا للطريق حتى أصل إلى الفتحة المسماة ميدان العبور لأعبر إلى بحر مويس ومنه إلى بداية طريق بيتي.... وبينما أنا على الرصيف رحت أراقب الطريق الذي عبرته وقد صار الآن على يميني... فاجأني أن كثيرين يفعلون ما أفعل.... فعلا ليست من طريقة لعبور الماشين المتعجلين غير هذا... وأما غير المتعجلين فلابد أن ينتظروا حتى يتوقف أو يخف سيل السيارات... تخيلت كم ربما تكون أعداد الذين يعبرون هذا الطريق ماشين يوميا أو على مدار الساعة؟... ومن المضحك عدم وجود أي كوبري مشاة أو نفق مشاة على طول الطريق.... كم عدد الذين يلقون بأيديهم إلى التهلكة ولا بد لهم من ذلك ما داموا متعجلين....!
ما يحدث حقيقة هو أنك تنتهز فرصة فتغافل أحد سائقي السيارات ثم إما أن تغافل آخر في الصف أو الطابور الثاني أو يغافلك هو... نوع من أنواع التسابق على المرور أنت تمر بالعرض والسيارات بالطول.. لم أستطع طوال طريق عودتي لبيتي أن أخرج من تأمل حال الماشين والسيارات الماشية.. فهل شوارع الزقازيق وحدها تشهد هذا الصراع بين الماشين والسيارات؟؟ أظن الزقازيق ليست أكثر من نموذج للغالبية من مدن مصر، وأتخيل أن بلدانا في الهند وربما الصين وغيرها من البلدان ذات العدد المرتفع من الناس قد يوجد فيها مثل هذا المشهد (أتخيل فقط لا رأيت ولا سمعت)..... ولكن هل أخلاق القيادة واحدة؟ وهل آداب السير واحدة؟
أتذكر عندما كنت أسير في شوارع قطر فلا أجد ماشين سواي بينما الشوارع واسعة والرصيف واسع، أما هنا فإن السيارات تكاد تتقاسم الأرصفة مع المشاة.. صحيح أنني في قطر كنت أشعر بغربتي وأنا الماشي على قدميه الوحيد في الدوحة... لكنني هنا أشعر بالخطر أكثر مما أشعر بالألفة.. هنا لا أشعر بالغربة لكن يحيط بي الخطر، فأشم من التراب وعوادم السيارات ما يسد كل طاقة للحياة في الأفق.... ناهيك عن أشكال المشردين من بني آدم حاملي الجنسية إياها... والذين لا تدري أترثي لحالهم أم يكفيك تجنبهم وأن تحمد الله أنك وأهلك من المحظوظين.... وكفى!.... والكلام هنا عن ليلة عادية وليس مثلا عن ليلة تعقب مباراة كرة قدم لفريق الأهلي والزمالك أو للمنتخب المصري، ففي مثل تلك الليالي يصبح السير في الشارع خطرا حقيقيا لأن المشردين والمتشردين يملئون الشوارع في تظاهرات احتفالية هي تقريبا فرصتهم الوحيدة للتعبير عن الفرح! إلا أن المؤسف والمفزع هو أن كثيرين من هؤلاء يكونون تحت تأثير الحشيش أو البانجو الذي أصبح يشربه الناس في الشوارع في الآونة الأخيرة ! يعني زحام يتخلله مساطيل ! فيصدمك أحدهم أو تصطدم بك يده التي يرفعها مناديا أو مشيرا وهو طبعا لا يراك بل يفاجأ بك، فإذا خاطبته رأيت في وجهه علامات الخدر! ولا حول ولا قوة إلا بالله!
أعبر الآن ميدان العبور ثم كوبري العبور ويتأكد لي فعلا أن ما يحدث هو نوع من التسابق بين السيارات والماشين على العبور.... الماشون لا يعبئون بإشارات المرور وسائقو السيارات يعبئون بها فقط عند وجود عسكري المرور فإن لم يكن موجودا فالحمراء كالخضراء لا فرق... أتذكر كيف كان يؤلمني مشهد الماشين أيام كنت أقود السيارة داخل الزقازيق... وأتذكر في نفس الوقت إحساس السائق إذا قطع أحد الماشين طريقه فهو أيضًا متعجل ومخنوق من الطريق والسيارات والناس ... وغير مستعد للانتظار ليسمح بمرور أحد! هكذا تجد الماشين والراكبين في سباق أيهم يعبر أولا... وفي خضم ذلك يصطدم الماشون ببعضهم كثيرا ولا وقت غالبا لاعتذار!! يكفي أن يتجنب الواحد اصطدامه بالسيارة أو الدراجة..... أي مشهد هذا؟؟ كثيرا ما يخطر لي أن مدننا غالبا غير مهيأة لوجود السيارات من الأساس فما بالكم بوجود كل هذا العدد منها؟؟! وهل المشكلة فعلا هي عدم التهيئة أم هي الزحام وزيادة عدد السيارات؟ أم المشكلة هي غياب النظام أم هي العجلة التي تصبغ سلوك الجميع أم تراها خليط من كل ذلك؟
ويتبع >>>>>>: بين الماشين والسيارات الماشية مشاركة
واقرأ أيضًا:
لبنان الجميلة مرة أخرى 2008 (2) / خذ عندك: وثالثة ورابعة... صفعتان وكفى؟!