نظلم أنفسنا كثيرا حين نستسلم لليأس وإيقاع البؤس ومقولات فساد الوقت، وعلامات آخر الزمان!!!
"وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10)"(سورة الشمس 7:10 )
كنت في زيارة سريعة لأبي وأستاذي الدكتور يحيى الرخاوي، وكان مما قاله لي: شفت كيف حصرنا الآية، وحجمنا معنى "ذكاها" في معنى التنقية، بينما التزكية في أكثر المعاجم تعني التنمية والتطوير، وهو ما يكون عبر جدلية التفاعل بين الفجور والتقوى، بين الشر والخير سواءً داخل الإنسان أو حوله في كل الحياة، وتأملت في جزعنا حين نرى الشر ينتشر رغم أن هذا من شأنه إطلاق طاقات الخير، واستفزاز إمكانات التغيير والإصلاح، إذا ما تعدل إدراكنا للأمور!!
هناك مسارات أخرى غير مجرد مضغ الشكوى وترديد الكلام حول نكد الشر وأهله، وغير تكرار القصص المملة حول انهيار كل شيء، والغرق في السواد والحداد على البلاد والعباد!!
آلاف الثواني بل ملايين ومليارات اللحظات يمكن أن تمتلئ بأشياء أخرى: كلمات ألطف، أشعار.. ربما، تجارب متبادلة، رفع قدرات وكفاءات، تعلم من دروس وخبرات، تنمية ونماء وتطوير نحو فلاح لمن "زكاها"، واعتراف بالشر، وفهم كيف يعمل بداخلنا وحولنا حتى نستطيع إبطال مفعوله، ونشر غيره.
كل واحد فينا يستطيع أن يكون واحة خضراء جميلة يستظل بها، ويأوي إليها من يلتمسون الدعم والدفء ورشفة باردة وسط الهجير، ويستطيع معاونة غيره على اكتشاف وتنمية مساحات الجمال بداخلهم.
الإصلاح يبدأ من هنا، من إطلاق أجمل ما فينا، ونشره وتداوله وإتاحة الفرصة أمام الجميع، أو أمام من يريد أن يشارك ويتذوق ويتعاون، والحياة أقصر من أن نقضيها في الصراع والتخريب والنكد والكراهية والعداء على لا شيء!!
يمكن أن تكون مجالسنا ذكرا لله، ومسامرة بالخير، وعلما وتعلما، وتخطيطا لحياة أفضل فرديا وجماعيا، ومتعة بل متع عديدة!!
يمكن أن نجتمع لنغني للإنسان وللحياة، ولشكر نعم الله علينا، وليس قدرا أن تملأ أسماعنا أصوات النواح، أو نعيق البوم، ونهيق أنكر الأصوات!!
يمكن أن نكف أيدينا عن سفك دمائنا، ونكف ألسنتنا عن الخوض في أعراضنا، ونكف أنفسنا عن كلام كثير وجدل وأفعال كثيرة لا تورثنا إلا البغضاء، ولا تأمرنا إلا بالمنكر!!
نحن أجمل مما نقول ونفعل ونتصور، وهذا ليس بمعيار الإعجاب الأحمق الأجوف بالذات المتضخمة على لاشيء!! نحن أجمل بما نحمل في ثنايا أنفسنا، وحين نختار للخير بداخلنا أن ينتصر، وروح التزكية أن تسود على الدس والدسائس، وللأجمل أن يخرج ويشيع وينتشر.
لا عذر لأحد، ولا مكان لمتقاعس في العالم يتيح لنا قدرا هائلا وغير مسبوق من التواصل والتفاعل والتزكية بالتنمية للذات وللآخرين وللأحوال جميعا.
لا أنصت لحوار بين اثنين إلا وأسمع الشكوى والمرارة والنحيب على الأحوال، ولا أدري إذا كان الكل يبكي هذا ويتحسر فمن أفسد الحياة إذن؟!
إنه نحن، ولا أحد سوانا، وأية نظرة متعمقة للذات بدون مساحيق تجميل، وبدون أقنعة كذب أو ألعاب خداع، أية بصيرة نافذة ستبرز أمامنا أين نخطئ؟! وكيف؟! وستعطي لنا فكرة سليمة ومفصلة عن نصيبنا في وصول أحوالنا الفردية والعامة إلى ما وصلت إليه، ولا يعفي هذا الآخرين من نصيبهم!!
يحكي أن ملكا قال لشعبه يوما: إننا متهمون بالكذب والنفاق والخداع ولؤم الطباع والشح، فصاحوا: ليس صحيحا... إنها محض أراجيف!! قال سنثبت للعالم أجمع أننا على النقيض من هذا بأن نضع فنطاسا ضخما في أكبر ميادين العاصمة، وخلال أسبوع سيكون مطلوبا من كل بيت أن يسكب في الفنطاس لترا من العسل، ليكون عندنا بنهاية الأسبوع فنطاساً مملوءاً بالعسل، وبعد الأسبوع اجتمع القوم في احتفال مهيب، احتفال "فنطاس العسل"، وحين فتحوا محبس الفنطاس سال الماء بلا طعم ولا لون ولا رائحة!!!
لقد وضع كل بيت في المملكة السعيدة قدحا من الماء ظنا منه أن الباقين سيضعون عسلا، وأن ما غش بوضعه لن يبين، فإذا بالكل يغش مثل الكل.. فلينظر كل واحد منا في القدح الذي يسكبه في الفنطاس العام!!!
من أنا؟! هل سأل بعضنا هذا السؤال لنفسه؟!
"أنا" هي ما أكتب وأقول وأعمل وأضيف للحياة وللآخرين، "أنا" هي الوقت، وما أستثمر نفسي فيه، وما أتعلمه من جديد أو نافع، وما أمتع به نفسي وأحبها، وما أساعد غيري أو أنفعه أو أدعمه أو أمتعه!! من منا يحب نفسه؟!
أو هي السخائم والشتائم والشكوى والأنين والنكد وركام الملل والسلبيات، والمرء كما يختار لنفسه بنفسه، ولا يلومن إلا نفسه، إذا أحبها أكرمها ونفع الآخرين بها، وإذا كرهها ظلمها فأظلمت ترسانة العقبات التي تفصلنا عن مستقبل أفضل هي مجرد ركام ضخم، ولكنه كالعهن المنفوش لو وجدنا في أنفسنا العزم أن نتقدم نحو النور، وننفض عنا غبار الكسل العقلي وانعدام التخطيط، وعشق الأحزان، ودموع العجز والعاجزين!!
أجسادنا تستحق غذاء أفضل ورياضة وراحة متوازنة وعملا نافعا مع رعاية واسترخاء، وأرواحنا تستحق تنمية وتواصلا مع واهب الأرواح بأسرارها وتألقها، وتواصلا مع من تألفه ويألفها، ونفوسنا وعقولنا ومشاعرنا تحتاج إلى صيانة دورية وتحفيز إيجابي، ووقاية من التورط في مطبات أفخاخ التبديد والهدر اليومي الشائع والسائد، وجهودنا ينبغي أن تتوجه إلى سعادة نقول أننا ننشدها، ولكننا نلتمس طرقا لا توصل إليها مطلقا!! بل نسير في الاتجاه المعاكس تماما!!
السعادة عزيمة وقرار، والإنجاز والإنتاج والتزكية كذلك، ولا تصدق أن أحدا يمكن أن يدمر أحدا، أو يصيبه إلا بما يقرر الآخر أن يقبله على نفسه!!
العافية نعمة من الله، والوقت رأسمالك فماذا تفعل بهما؟!!
إذا قام كل واحد منا بعمله كما ينبغي، وعلى أحسن وجه، مستمتعا بما يفعل ويقول، ومدققا في حسن الأداء، ومتقنا للعناية بالتفاصيل، شاعرا باللذة أنه يضع في الفنطاس العام كوب عسل، وإذا توافر لدينا الإصرار على نشر هذه الروح من الاهتمام والتجويد، وإذا أوقفنا بث الشكوى، وضخ الكلام الممل عن تقصير السلطات، وانهيار الخدمات، وتآكل الأخلاقيات، وبدلا من هذا قلنا خيرا ندعم به من ينصت أو نمتعه أو نزرع في نفسه أو وجدانه فسيلة حب أو خير أو نماء، نحن الذين نتداول العملة الرديئة فتروج وتنتشر!!
لو توقفنا عن ادعاء العلم، وبدأنا في أن نتعلم بجدية، وحاولنا أن نعلم من حولنا ما تعلمناه من الحياة أو في مساحات المعرفة المختلفة.
لو تعاون نصف المتباكين على فساد الأحوال، بل لو تعاون نصف النصف ممن يلطمون الخدود، ويشقون الجيوب، منا بكاء أو تباكيا على ما يحصل لنا وفينا، لو تعاون النابهين في كل كليلة جامعية، في كل مدرسة، في كل مصلحة، في كل حي سكني، في كل مؤسسة أو شركة، لو كففنا عن الشكوى، وشتم الإدارات، والخوض في الأعراض وسير الناس، وجلسنا فوضعنا أو وضع هؤلاء خطة بسيطة ومتواضعة للارتقاء بأنفسهم، وبالمكان الذي يعملون فيه، وتبادل الخبرات والدعم والتشجيع ستتحول حياتنا إلى شيء آخر تماما، وأنا هنا لا أعيد تعريف الماء، ولا أخترع تفجير الذرة، ولا أكتب طلاسم سحرية، إنما أتفكر بصوت عالٍ في سبل للإصلاح بسيطة ومؤثرة.
روت لي إحداهن عن تجربة عاشتها، واستوحتها من بعض كتب التنمية الذاتية، وهي عبارة عن فريق من الأصدقاء يتواعدون على اللقاء والمؤازرة المتبادلة بشأن ما يريد كل منهم أن يقوم به خلال الأسبوع، ويقومون بمتابعة بعضهم بعضا، والاحتفاظ بأي نجاح يحصل، ومراجعة أي خطأ ليتم إصلاحه وعدم تكراره، وقالت إنها عاشت هذه التجربة لمدة عام كامل مع مجموعة من صديقاتها، وأنه كان عاما مليئا بالإنجازات والنجاحات لجميع هؤلاء الصديقات!
قلت لها: إن هكذا الأصل في أية علاقة إنسانية، فالإنسان ينتظر الدعم ممن حوله من أقارب وأصدقاء وأحباب، ومنتظر منه أيضا أن يدعمهم، فقالت: هذا المفروض، لكنه كثيرا لا يحدث!!
إن الأمل موجود في متناول أيدينا، والإصلاح ممكن لمن يريده ويسعى إليه، وأشياء جميلة يمكن أن تحصل لنا فرديا وجمعيا إذا قررنا وبدأنا.. فهيا.
واقرأ أيضًا
على باب الله: أبناء المسيري/ على باب الله: أنت جميل