فجر الخميس التاسع والعشرين من جمادى الثانية 1429هـ - الثالث من يوليو 2008م -، كان يتراءى لي كما لو كان فجراً عادياً، غير أنه تبين لي أنه (فجر تاريخي)، فهو الفجر الذي رحل فيه حبيبي.. رحل فيه أستاذي الكبير الدكتور عبد الوهاب المسيري... المفكر الإنسان... المفكر الكارزمي... مفكر القرن الخامس عشر الهجري... لم يكن بوسع المسيري ألا يرحل، فالرحيل ناموس إلهي لا يتخلف عنه مخلوق... غير أنه كان بمقدور المسيري أن يرحل بشكل اعتيادي، كما يرحل آلاف البشر الطيبين... أولئك البشر الذين يخلفون سيرة محمودة، تشفع لهم في أن يحتلوا مساحات صغيرة أو كبيرة في ذاكرة مجموعة من أحبابهم ومعارفهم.. وذاك شأن لا يطيقه كل أحد... ولكن المسيري ظل يسبح باتجاه الضفة الأخرى، حيث جعل يداوم على دفع تكاليف فواتير خلوده، ليكون ضمن قائمة المخلدين النبلاء الشرفاء على مستوى الأمة العربية والإسلامية...
أشعلتُ جوالي مرات كثيرة للسلام عليه والاطمئنان على صحته، وقد اجتاحني خوف كبير من جراء نغمة (عفواً.. قد يكون هذا الجوال مغلقاً)، فلم يعتد جواله أن يكون مغلقا لفترة طويلة تمتد إلى بضعة أيام... واصلت الاتصال إلى حين ظفرت برنة الجوال يوم الأربعاء 2 يوليو قرابة الساعة السادسة مساء... ُفتح الخط مما جعلني أهيئ أذني لالتقاط صوته المبحوح الأجمل إلى قلبي... فوجئت بأن زوجته الكريمة الدكتورة هدى حجازي ترد علي مخبرة إياي بأنه (تعبان شويه... هو الآن في مستشفى فلسطين)، سألتها (خير إن شاء الله... سلامات)... تحدثت بصوت مؤمن (والله تعبان... درجة الحرارة مرتفعة ومقدروش يسيطروا عليها... استنى شويه وحشوف إذا كان يقدر يكلمك..)، توقفت بضع ثوانٍ مقلبا الموقف في رأسي في حيرة موجعة بعض الشيء، لأقول للسيدة الفاضلة بعد ثوان (لا.. بلاش نتعبه... دعيني أعيد الاتصال هذه الليلة أو غدا) فردت علي (أنا حبلغه سلامك)... بعدها مباشرة اتصلت بالأخ العزيز الدكتور سعد البازعي لعلمي بأن له دورا مباشرا وموقفا مشرفا في المرات السابقة لمرضه، فأخبرني الدكتور سعد بأنه على علم بمرضه وأنه قد تحدث معه قبل يومين أو ثلاثة وقال لي:
السرطان مرض خطير فعلا!... السيناريو السابق جاد علي بقدر كبير من القلق وفاض كأس مزاجي برغوة مزعجة... شعرت بأنني خائف عليه ومتوجس من هجمة المرض هذه... خاصة أنني أعلم بأن السرطان في مراحله المتقدمة يصبغ الجسد بألوان من الإرباك والاضطراب لأجهزته وأنظمته لدرجة يفقد معها القدرة على تأدية الحد الأدنى من الوظائف... كعادتي تلك الأيام... لم أنم إلا بعد الفجر... قمت عند الساعة الحادية عشرة صباحا، فذهبت مباشرة إلى جوالي بشكل بدا لي وكأنه مبرمج وفق تعليمات خفية لذاكرة متألمة... وجدت رسالة من صديقي الأستاذ وليد القبلان تقول: أحسن الله عزاءك في الدكتور عبد الوهاب المسيري... سألته: وما مصدرك؟ فقال: الشريط الإخباري لقناة الجزيرة!
تبخرت دموعي وانسحبت في مشهد كدت أتهمها فيه بالخيانة، إذ كيف تحجم عن إمدادي بكمية من الدمع تكفي لتغطية المنسوب المرتفع لخزان أحزاني... آه من الدمع الذي يخذلك في زمن تدرك فيه دمعاتك قدر حاجتك إليها... فجأة نزلت عليّ صورة متبسمة تتقاطر تفاؤلاً للدكتور عبد الوهاب، كما هي عادته التي لا تنقطع، لتنزع من فمي كلمات الاتهام وإشارات التخوين وتملأه بكلمات الحمد والحوقلة والدعاء للفقيد الكبير... حينها تذكرت ما قاله لي حين زرته في (الساحل الشمالي) - أو الساحر الشمالي كما يسميها- في قرية الرواد بصحبة صديقي الدكتور زيد المحيميد في 7 أغسطس 2007م حينما سألته عن المرض، وتحديداً: كيف ينظر إلى المرض؟ فقال لي بروح راضية مطمئنة: لا أكترث له!، المرض جعل إيماني يتعمق... كان إيماني عقلانياً فلسفياً... أما الآن فهو روحي أيضاً.. ثم استطرد بالقول بأنه قد طلب من ربه تعالى أن يمد في عمره عشر سنوات ليكمل بقية مشاريعه البحثية والفكرية، ثم قال حينها: مضى ثلاث وبقي سبع، ونحن الآن نقول بأنه ذهب أربع سنوات، أما الست فنرجو أن تكون من مدخراته الباقيات، مع وجوب أن نتحمل جميعاً المسؤولية -كل في مجاله- علنا نفلح في إخراج وإكمال كل ما يمكن من كنوز المسيري التي لم تر النور!
ثم أخذ يتحدث بنبرة وفاء وامتنان عن التبرعات السعودية، حيث أشار إلى التبرع الكريم للأمير عبد العزيز بن فهد بن عبد العزيز آل سعود الذي تكفل بنفقات علاجه في أمريكا في المرة الأولى... ثم تحدث عن التبرع السخي لصاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز آل سعود الذي تكفل بنفقات علاجه في المرة الثانية، وذكر لي أنه حظي بعناية (خمسة نجوم) في كل شيء.. في المستشفيات والعلاج والفنادق والمواصلات... وتجدر الإشارة إلى أن معاناة الدكتور المسيري مع المرض بدأت رحلتها عام 2001م، وذلك بعد أن فرغ من إنجاز موسوعته الشهيرة، حيث خضع لعملية جراحية في الظهر، وقد ذكر المسيري أن تلك العملية (تكلفت 180 ألف جنيه، ولولا حدوث معجزة وقتها لما تمكنت من سداد تكاليف العملية، حيث كنت خارجا من الموسوعة مفلسا، وأثناء العملية اكتشفت إصابتي بسرطان الدم وخضعت لجلستي علاج كيماوي بتكلفة بلغت ألف دولار. وهذه الأزمة دفعت الأطباء إلى أن يطلبوا مني السفر إلى أمريكا لإجراء عملية زرع نخاع...)، ثم ذكر أنه حاول أن يستدين مبلغ 70 ألف دولار إلى أن جاءت تلك التبرعات السخية (صحيفة عكاظ، 20-7- 2007م).
رحل مفكر القرن... ولم أعجب من كثرة أعداد المقالات التأبينية من كافة التوجهات الفكرية والسياسية على امتداد العالم العربي، فلم أر مفكراً حظي بمثل هذا الإجماع الحاشد وجلب لنفسه هذا القدر الكبير من الحب والتقدير... فالبعض أحب فيه المفكر والفيلسوف وآخرون أُخذوا بالمسيري: الباحث الموسوعي، الأديب، المناضل، الإصلاحي، السياسي... غير أن الذين اقتربوا منه وعرفوه عن كثب فإنهم سيعجبون أكثر ب(المسيري الإنسان) وسيحبونه أكثر!
وقد يكون من الواجب علينا أن نتذكر كيف نعي الدكتور المسيري من قبل زوجته الدكتورة هدى حجازي حيث ذكرت يوم رحيله بأنه (إنسان يفيض بإنسانيته على كل من حوله والمعلم الذي يبث الثقة في تلاميذه والفنان الذي يعشق الجمال.. وأضافت: كما أنه الثائر الذي يرفض كافة أشكال التسلط ويحلم بحياة قائمة على العدل وأنه كان نموذجا للإنسان كما ينبغي أن يكون) (صحيفة العرب، 15- 7-2008م)، وقد صدقت الدكتورة هدى في كل ما ذهبت إليه... ولعله من الملائم أن نسترجع شيئاً مما قاله المسيري عن زوجته الرائعة التي كانت رفيقة دربه مذ كان عمرها 17 سنة، فالدكتور المسيري رحمه الله تعالى يقول: (وقد التحقت زوجتي ببرنامج الماجستير وآثرت -هي- ألا تتفرغ تماماً للدراسة حتى لا تتعارض دراستها مع واجباتها كأم.
فحصلت على هذه الدرجة العلمية ببطء شديد -مقرر واحد أو مقررين كل فصل دراسي-، ولكن حينما سنحت أمامها الفرصة للالتحاق ببرنامج الدكتوراه أصبح الأمر يتطلب التفرغ الكامل. ومن ثم الاستعانة بجليسة للأطفال sitter baby ولم أمانع كثيرا في ذلك وطلبت منها أن تغتنم الفرصة وألا تضيع أي وقت، ولو فعلت لحصلت على درجة الدكتوراه وهي بعد دون السادسة والعشرين، ولبدأت حياتها المهنية العامة في سن مبكرة. ولكن فوجئتُ بها ترفض، كما رفضت أن تعمل خارج المنزل لأنها كانت تشعر أن العلاقة المباشرة بين الأم والطفلة أمر لا يمكن تعويضه مدى الحياة. وأن دراستها وعملها هذا سيحرم طفلتها الحق في أن تستيقظ في الوقت الذي تشاء وأن تقضي سنوات حياتها الأولى في طمأنينة وسعادة وسكينة. ساعتها فزعت من نفسي لأنني، بسبب عقلية الإنجاز البروميثية والإنتاج الفاوستية التي هيمنت علي آنذاك، لم أدرك هذه الأمور الكونية البسيطة. وكبرت الطفلة وحصلت كل من الأم والطفلة على الدكتوراه ولم ينته التاريخ. أما عن نفسي فأعرف أنني أدركني شيء من الندم كما أعرف أنني أدركت الكثير من الحكمة (ما بين حركة تحرير المرأة وحركة التمركز حول الأنثى: رؤية معرفية المنعطف، العدد 15-16، 2000، ص72-102).
سنواصل الحديث عن المفكر الإنسان.. المفكر الصادق.. المفكر الكارزمي.. مفكر القرن الدكتور المسيري في تسلسل طبيعي غير مفتعل، فذاك سياق يتلاءم مع نفسه ومنهجه، ولعلي أفلح في استدعاء بعض المعالم والقصص والمعلومات التي توضح جوانب هامة وربما غير معروفة لدى البعض، فهذا جزء من واجبنا تجاه ذلك المفكر العملاق.
ويتبع >>>>: البروفيسور المسيري.. مفكر القرن (2)
اقرأ أيضاً:
متى نشخِّص الثقافة؟ / مدننا وتنشيط ذاكرتنا الجمعية!