سألني صديق يتصور أنني أعرف: هل الشعب المصري أحوج إلى الدين أم إلى المعرفة؟ قلت له: نحن في ماذا أم ماذا؟ قال: نحن في هذا. قلت: وهل هناك فرق بين الدين والمعرفة؟ قال: كيف ذلك؟
قلت: الدين هو طريق إلى المعرفة، والمعرفة هي هدف الدين الممتد إلى وجه الحق سبحانه وتعالى، الدين الصحيح لا يكون كذلك إلا إذا ساهم في تعميق وتوسيع الوعي البشري الذي هو الوسط الذي تترعرع فيه المعرفة. وهذا ليس له علاقة بالتمحك فيما يسمى العلم والمعلومات الحديثة، تلك البدعة التي يسمونها التفسير العلمي للمقدس، أو الإعجاز الديني، بما لا يدل إلا على اهتزاز الإيمان والجهل بحقيقة العلم والدين معا، قال: وما الفرق بين العلم والمعرفة، قلت: المعرفة –كما تعرف- هي شحذ كل أدوات وجودنا، نعمِّق بها وعينا الذي يرتقي بنا "إليه"، قال: يعني ماذا؟ قلت: أنت تعرف أنني أتابع الآن ما يجري عبر العالم للتعرف على الجهود التي تجري للتأكيد على تعدد مناهل المعرفة مثل استعادة الجسد والوجدان دورهما في التفكير والإرادة والحرية وغير ذلك، جنبا إلى جنب مع ما يسمى العقل.
قال: وما دخل هذا بالدين؟ قلت: الدين الصحيح، يهدينا إلى التعرف "عليه"، "علينا"، أكثر فأكثر، حين يشحذ كل هذه الأدوات ليوقظ "الوعي المشتمل"، قال: يعني ماذا؟ قلت له: إن ما يسمى العقل ليس هو السبيل الأوحد للمعرفة، فالفن وسيلة أخرى، والدين الصحيح هو وسيلة أشمل بالجهاد الأكبر، والكدح المستمر، والإبداع المتجدد بما يمهد طريق الوصل بين الوعي البشري والوعي الكوني، وهو طريق صعب على الكافة، ومن رحمة ربنا أن انتقى من عباده من يبين لنا بعض معالم طريقنا إليه، إلينا، قال: ألهذا تقول إن الدين هو المعرفة؟ قلت له لست أنا الذي أقول، ألم تكن أول آية نزلت على نبينا صلى الله عليه وسلم هي أمر بأن: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ"، ثم:"اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ"، لقد اختزلوا كل ذلك إلى سجن المعاجم وقشور العلم كما يتصورنه، فحبسوه تحت سقف جهلهم، حتى أغروا الجاهزين للإغارة بالاستيلاء على آبار هذه المعرفة أيضا ليسمموها، قال: من هم؟ قلت: "هم"، كل من هو بوش، ثم إننا "نحن" لسنا إلا "هم" بالاستسلام والتبعية والبله، قال: لست فاهما، قلت: الأرجح أنهم يخططون ضمن مخططهم العولمي للاستيلاء على آبار جواهر البشر الإيمانية (مثلما فعلوا مع آبار البترول)،.
تذكرت هذا الحديث وأنا أتابع بعض ما دار مؤخرا في جامعة الأزهر بين بعض قادة التصوف وثقات السلفيين، من تبادل القذف والاتهامات إلى حد التكفير ("نهضة مصر" 5 يونيو)، ثم ما لحقه في الملف الذي نشره "الأهرام العربي" اليوم (21 الجاري)، فانتبهت أكثر إلى مخاطر الاختزال، والاستعمال، والتشويه، والتسطيح، والتهوين، من شأن التصوف المعرفي، والتصوف الشعبي، معا.
أصبح التصوف الشعبي (وهو من أعمق وأثرى ما تبقى لنا من سبل إشراك الجسد والوعي الجمعي في الطريق إليه) عرضة لهجوم مؤسساتنا السلطوية الدينية وسخرية المثقفين المميكنين على حد سواء، كما أصبح التصوف المعرفي الإبداعي السمح الرحب، عرضة للانقضاض عليه من قوى العولمة الخبيثة ليروجوا –تحت لافتته- تسامح استسلامي محلي وعالمي، لصالح المافيا المتكاثرة بالأموال، المتطاولة في الظلم والقتل وتشويه العقل البشري، والحس الإيماني، جنبا إلى جنب مع إزهاق الأرواح، وسرقة الثروات، كل ذلك بمباركة ما يسمى العولمة، وتسويق الفوضى، لاستكمال السيطرة على العالم ودفعه للتسارع إلى العدم.
سأل صاحبي: فنحن أحوج إلى ماذا الآن إذن؟ قلت نحن أحوج إلى العدل الذي يفرخ الإبداع، أرقى مستويات المعرفة، بديلا عن الشعارات والمواثيق المستوردة التي تستعمل من الظاهر لصالح مخططاتهم. قال : يعني ماذا؟ قلت: حتى التصوف الجهاد المعرفي الأكبر، يريدون أن يسوقوه باسمهم تحت رعايتهم في سوبر ماركت العولمة، بعد أن يلصقوا عليه لافتات جديدة، مثل التسامح (الرخو)، والفوضى (إياها) وحقوق الإنسان (تبعهم)، وهم يغلفون كل ذلك في أوراق الطاعة البلهاء باسم التصوف المعدّل،. قال: ألهذا تنفي عن نفسك دائما صفة التصوف، قلت: نعم، وقد تمنيت مؤخرا أن نجد لهذا السعي الكدح المعرفي اسما سريا حركيا آخر، بحيث يفاجئون وهم يرون نتائجه لنا ولهم جميعا، فلا ينقضون عليه يشوهونه قبل أن نمتلك وسائل تسويقه. هيا معا.
قال: إلى أين؟
قلت: كما خلقنا الله.
نشرت في الدستور بتاريخ 25-6-2008
اقرأ أيضا:
هل تنتحر البشريةُ / أين الأزمة؟ صعوبة الأسئلة؟ أم نفاق الجميع؟ / تعتعة سياسية: الامتحانات، وقيمة اسمها