البروفيسور المسيري.. مفكر القرن (1)
(ويل للمرء الذي يربح كل شيء ويخسر نفسه)... هكذا كان يقول مفكر القرن الخامس عشر الهجري الدكتور عبد الوهاب المسيري. عبارة فارهة الصدق كهذه هي أنموذج حي يجسد لنا حقيقة المسيري الإنسان/ المفكر؛ الإنسان الذي يتلبّس بالسمات التي تجعله إنساناً بحق، فإن كان مشتغلاً بالفكر وجدلياته كان مفكراً إنساناً، وإن كان منشغلاً بالبحث وإشكالياته كان باحثاً إنساناً، وإن كان مكرساً حياته للطب والعلاج كان طبيباً إنساناً، وإن كان أباً كان أباً إنساناً. تلك (الحقيقة) التي (كبسلها) لنا بكل براعة الدكتور المسيري هي ما نحتاجه اليوم في عالمنا العربي، حيث نرى تحريضاً للإنسان لكي يستغل كل شيء، ويحرق كل شيء من أجل ذاته ورغباته، والعجيب أننا بتنا نشاهد نموّاً مخيفاً لأعشاب الأنانية وتكاثراً مطرداً لطحالب الكذب على خارطة الفعل الإنساني في مجتمعنا العربي المعاصر، خسارتنا للصدق وعدم ثورتنا على الكذب المحيط بنا يمثل أعظم كارثة، فبالصدق -كما أحسب- استحق العرب أن يتوجوا بالرسالة الخاتمة!.
لقد كانت حياة الدكتور المسيري تصويراً لهذه الإنسانية وتجسيداً لمعاني الصدق كلها، وسوف أروي لكم بعض القصص التي أدهشتني وجعلت مني صيداً سهلاً للسهام التي انطلقت وتنطلق من كنانة المسيري.
شاركت في مؤتمر (إشكالية التحيّز الثاني) الذي نظمه ورعاه الدكتور المسيري من ألفه إلى يائه؛ بمساعدة كريمة من لدن بعض الباحثين والباحثات، وكان ذلك في محرم 1428هـ، وقبل موعد المؤتمر ببضعة أيام هاتفت الدكتور المسيري لكي يحجزوا لي غرفة بسريرين بدل سرير واحد نظراً لأن صديقي الأستاذ أحمد الكبيّر سوف يصاحبني إلى المؤتمر، والحقيقة أنني شعرت بشيء من الحرج وأنا أطلب منه ذلك، غير أنه قابلني بأريحيته المعهودة التي تبدد كل ذرات الخجل أو القلق. وصلنا القاهرة قادمين من مدينة (السادات) مساء الجمعة 21 محرم، وكان من المتحتّم علينا أن نشق طريقنا إلى (فندق المؤتمر)، وجدنا صعوبة بالغة في العثور عليه، فالعظماء لا تدركهم العيون بسهولة! لدرجة أن سائق التاكسي تضجر كثيراً من خداع ذلك الفندق ومراوغة جغرافيته..
يا إلهي وصلنا الفندق فوجدناه شديد التواضع، كل شيء فيه يشعرك بأن الزمن قاسٍ على الأثاث والجدران والسقف. المهم قررنا أن هذه هي الليلة الأولى والأخيرة، فشمس الغد ستهب لنا فسحة من القوة لكي نتدبر أمرنا ونسكن على (حسابنا) بدلاً من هذا (الفندق البلّوشي) المتواضع، لم نتمكن من تحقيق ذلك فالمؤتمر كان يجثم على (صدر النهار)، ويتمدد على (أكتاف المساء) في اثنتي عشرة ساعة بالتمام والكمال، من التاسعة الصباحية إلى شقيقتها المسائية.. شعرنا بالضيق وقلت في نفسي مراراً بأن هذا لا يليق: لو قالوا لنا نسكن على حسابنا، أفضل من هذه الحالة، كنت أقول ذلك لنفسي دون مواربة.
وفي اليوم الأخير للمؤتمر صعدنا لكي نتناول طعام الإفطار في الفندق- الدور التاسع- ففوجئنا بوجود الدكتور عبد الوهاب وهو يتناول إفطاره مع شاب مصري، كان متأنقاً برص أسئلته حول نتائج الدراسة لذلك الشاب الذي غادر بعد لحظات من قدومنا فلاحت فرصة للانضمام إلى طاولة الدكتور المسيري، وبعد شيء من الدردشة وجهت له سؤالاً: "بشّر!، كيف ميزانية المؤتمر... عساكم غطيتم التكاليف بشكل جيد"، ضحك كالمعتاد وقال: "لا، أبداً، حصلت على 25 ألف دولار من الراعي والناشر لأعمال المؤتمر، وتبقى نحو 50 ألف دولار، مما جعلني أتحمّله أنا" ثم ذكر لي أن الفرق جاء لعدة أسباب من أهمها تكاليف الإقامة والإعاشة لضيوف المؤتمر، وأضاف بأنه كان يتمنى لو استطاع أن يسكّن الضيوف في فندق (خمسة نجوم)! صعقنا حينما علمنا بأن المسيري هو مضيفنا، كيف يتحمل ذلك المبلغَ الكبيرَ مفكرٌ مثقلٌ بالمرض؛ محتاجٌ إلى كل قرش ليتعارك مع (السرطان)! لا بل هو محتاج إلى أن يكمل فيه بقية مشاريعه، مع العلم بأنه قد أنفق على موسوعته ما يقارب مليون ونصف المليون من الجنيهات المصرية من غير حساب جهده الشخصي كخبير وباحث، وقد كتب -كما قال لي- قرابة 14 ألف ورقة لإكمال تلك الموسوعة العظيمة، وقد ضاعفت التهديدات التي كان يتلقاها بسبب عمله (البطولي) في الموسوعة -كما في بعض مقابلاته المنشورة- من التكلفة حيث إنه كان يتوجب عليه الاحتفاظ بعدة نسخ في أماكن آمنة، وذكر أن جيرانه في -مصر الجديدة- قد باركوا لزوجته الدكتورة هدى حجازي لأنهم ظنوا أنه قد عُيّن وزيراً وذلك من كثرة الحراسة التي أعدت له في بعض السنوات!. إنه الصدق في أعظم صوره، حينها انقلب الفندق إياه ليصبح أجمل فندق في عيوننا، إي والله أجمل فندق! فأيقنت بأن الشعور بالسعادة أو التعاسة لا يتولد خارج ذات الإنسان!!.
وعدت الدكتور المسيري بأنني سوف أبذل جهدي في البحث عن ممول لذلك المبلغ، تحدثت مع مؤسسات وشخصيات ثقافية وإعلامية عديدة، كلهم للأسف اعتذروا وقالوا: الحدث انتهى..! وبمعنى آخر قالوا لي: عفواً، الأخبار طارت بها الصحف والقنوات وحنطت الصور ذلك الحدث في مواقع الإنترنت... خجلت كثيرا، فليس ثمة فرق كبير بين أولئك (المثقفين) و(أشباه المحسنين) الذين لا تبزغ نجوميتهم إلا أمام الكاميرات... فكل يبحث عن الصور ويقتات عليها!!.
الصدق الذي كان يتلبسه المسيري كان من النوع الفاخر، فالمسيري صادق ومتجرد في بحثه وفكره وكتابته وبوحه عن أفكاره، ولي معه عدة مواقف تبرهن على رسوخ قدمه في الصدق والتجرد، يعد (فقه التحيز) من أعظم وأهم المجالات التي أسهم فيها الدكتور المسيري، بل إنني أعتقد بأنه الأهم على الإطلاق -لأسباب قد أشير إليها لاحقاً- وقد نظم بجهد خرافي المؤتمر الأول لإشكالية التحيز في القاهرة عام 1992م. وصدر عن المؤتمر عدة كتب من أهمها: الكتاب الأول "المقدمة - فقه التحيز" والذي كتبه الدكتور المسيري بنفسه وضمنه خلاصات ونتائج بالغة العمق والأهمية في موضوع التحيز، وقد أعيدت طباعة تلك الكتب عدة مرات ونفدت من السوق منذ ثلاث سنوات تقريباً، وثمة طلب كبير عليها من قبل الباحثين والباحثات على امتداد العالم العربي. حين رأيته في مؤتمر التحيز الثاني في القاهرة (فبراير 2007م) أخبرته عن وجود حاجة ماسة لإعادة طباعة الكتب مرة أخرى وقلت له بأن تلاميذنا وتلميذاتنا في مراحل الدراسات العليا يبحثون عن تلك الكتب فلا يجدونها، فقال الدكتور لي كلاما لا يمكن أن يخطر على قلب باحث، قال لي: "تلك كانت أفكار مبدئية وأنا أريد أن يتجاوز الناس بفكرهم وعطائهم تلك الأفكار"، كثيراً ما كان يردد رحمه الله تعالى أن ما يطرحه هو عبارة عن أفكار! لم يكن متصنعاً ولا متكلفاً فيما يقوله هو عن نتائجه التي توصل إليها بشق أنفاسه الطاهرة، ولهذا فهو لم يشأ أن يصنع لنفسه (هالة) من القداسة الفكرية، بل إن سيرته العطرة كلها تحمل أدوات متكاملة لتكسير كل ما يؤدي إلى (الجمودية الذهنية) أو (المجاملاتية الفكرية)، فأي عظمة توفرت عليها مفكر القرن!...
نحن نشاهد الهزائم تلو الهزائم لعدد غير قليل من الكتاب والروائيين والدعاة، حيث لم يفلحوا في إيقاف (خط إنتاجهم) من الكتب والروايات والأشرطة (القديمة)؛ إما لأنهم يطمعون بما يعود عليهم منها من دريهمات يقمن (صلب جشعهم)، أو أنهم لا يمتلكون الجرأة الكافية للقول بأنها لم تعد (صالحة للاستخدام الفكري)، فضلاً عن الباحثين والأكاديميين الذين يسرقون الأبحاث أو يجيرونها بأسمائهم دون أن يبذلوا جهوداً تذكر فيها للحصول على (الترقية) وغيرها، ومن أجل ذلك يطوي التاريخ صفحات الآلاف من غير الصادقين. ومن أجل الصدق والتجرد نال المسيري هذا القدر الباذخ من الكارزمية والاحترام لأفكاره، فهو يتربع على قمة الفكر والتفلسف ومع ذلك لا يرى أنه قدّم شيئاً!
وقد أخبرني ذات يوم في خضم حديث عن البحث وضرورة أن يكون الإنسان جاداً وصادقاً في كافة عملياته ومراحله، أنه كلّف إحدى الباحثات (الأخت الكريمة الأستاذة نادية رفعت) ببحث مسألة تتعلق ب(الموسيقى العبرية) مما جعلها تشتري الآلات الموسيقية وتتعلمها من أجل أن تصل إلى النتائج بشكل دقيق، وذكر بأنها (هَيلة)، وأردف قائلاً: (شفت الإخلاص)، مثنياً على قدرتها البحثية وكامل جديتها، بل ذكر بأنها قد كتبت شيئاً ظن أنه هو الذي كتبه بنفسه!!.
والمسيري صادق أبداً في إكمال رسالته وتأدية واجبه على أكمل وجه وإلى آخر وجه أيضاً...!، ومن ذلك ما أخبرني به بأنه دُعي ذات مساء إلى إلقاء محاضرة عن (النكتة) في إحدى المؤسسات الثقافية في القاهرة- ربما في أواخر 2005م-، فمنع من إلقائها، فما كان منه إلى أن استجاب للمنع؛ ولكنه وضع كرسياً في جانب من الطريق وألقى المحاضرة كاملة على من حضر من المهتمين حيث تناول مجموعة من النكت وقام بتحليلها وتفكيكها وإعادة تركيبها في(نماذج معرفية) محددة!.
ملاحظة: أشكر كل من أرسل إلي بخصوص مقالي الأول عن الدكتور المسيري من الأصدقاء والقراء من السعودية ومصر والمغرب وبريطانيا وأمريكا... والحق بأن كلماتهم الجميلة تشجعني على المواصلة.
ويتبع >>>>: البروفيسور المسيري.. مفكر القرن (3)
اقرأ أيضاً:
متى نشخِّص الثقافة؟ / مدننا وتنشيط ذاكرتنا الجمعية!