كندا التي كانت بعيدة عن العقل والقلب والجسد صارت لسنوات فقرة ثابتة في تجوالي وفي أفكاري وتأملاتي، أصبح لي فيها ذكريات عزيزة، ومواضيع حميمة، ولحظات، وأماكن أحب أن أستعيدها، أضحت كندا جزءا من تكويني، وصرت أشتاق إليها إن غبت عنها!! ولله وحده الأرض وما فوقها، كلها أرضه سبحانه.
هل يمكن أن أنسى يوم حفل حصول شقيقي على الجنسية الكندية الذي تزامن مع زيارتي له فكان شيئا رائعا أن أشاركه هذا الحدث الذي لا يتكرر في حياة الإنسان غالبا؟!!
في كندا ومنها نشأ وجاء "باتريس" صديقي العزيز الذي قابلته منذ أربعة عشر عاما في مؤتمر السكان بالقاهرة، ومنه ومعه تعلمت وأتعلم أشياءً كثيرة عن الحياة والعالم والبشر والأديان، وبالأمس صحبني في جولة مسائية سريعة لأرى "مونتريال" من أعلى الجبل وهي تلمع بأضواء مبهرة في صيف ساحر قبل أن تمطر السماء فجأة، وهكذا الطقس هنا!!
في منزل أسرته أبيت ليلتين، ودخول البيوت ورؤيتها وأهلها يبدو جزءا مهما من معرفة الناس والثقافة والحياة في بلد ما، أستمع لمحطة راديو مونتريال للموسيقى الكلاسيكية فأتذكر البرنامج الموسيقي على موجات الإف إم بمصر، وتسترخي أفكاري وأعصابي وتنساب الأنفاس والخواطر على الإيقاعات والأصوات الهادئة الممتدة، الأمر الذي أحبه حين تكون هناك فرصة للسماع والتذوق.
عائد من مدينة كيبك التي تبذل أقصى وسعها في احتفالها بمرور أربعة قرون على تأسيسها، وفي هذا الإطار تزدحم بالأنشطة والناس من كل حدب وصوب جاءوا يتفرجون ويستمتعون بمدينة صرت أعشقها بشوارعها الصاعدة والهابطة ومعمارها الفرنسي المتميز، وزادت عروضا مبهرة في كنيسة نوتردام الآن.
أتساءل كما تكرر: لماذا لم يحتفِ الإسلام، والمسلمون غالبا، بزخرفة زائدة للمساجد، ولا أباح الإسلام الأيقونات من تماثيل ولوحات، ولا كان المسجد في تجربتنا إلا مكانا للتجمع والعبادة، ويمكننا أن نصلي في غيره "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا"، ولماذا لم يهتم الإسلام بأن يكون له على الأرض كهنوت يحفظ تقاليده ويتوارثها، ولا مؤسسة دينية يتجسد فيها الدين؟! وهل يتضمن مسار الإسلام المختلف عن هذا المسار المسيحي إشارات عن أهمية محورية للأمة في مقابل الكنيسة، والدين المعاش الدنيوي الواقعي المتجلي في الحياة والمنبثق منها في مقابل الدين المحصور المحدد في الأيقونات واللوحات والجدران والتماثيل؟! هل هي إيماءات وإشارات واضحة إلى أن الإسلام في أصوله وتوجهاته يعنى بالجواهر والمعاني والمقاصد والقيم أكثر مما يعنى بالمباني والأشكال والصور والأزياء؟!
وإذا كان الإسلام يهدف إلى هذا ويتصوره ويتوجه إليه، فأين نحن الآن؟! وإلى أين يسير المسلمون؟ وأي إسلام هذا الذي يعيشون؟!! أو أية علاقة بينهم وبين الإسلام؟
وإذا لم يكن للإسلام في أصول رسالته مكان محدد مثل الكنيسة أو المعبد، ولا رموز محددة مثل الصليب أو غيره، فهل معنى هذا أنه يفترض أن كل مكان هو مكان عبادة، وأن كل فعل "دنيوي" حياتي هو فعل عبادة، وأن كل حركة في عمران الأرض وبناء الحياة هي مكان للدين والعبادة، فيها ينبغي أن نتذكر الله ونعبده، ونرجو رضاه؟ وإذا كان الأمر كذلك فأين المسلمون اليوم؟
خرجت من الكنيسة مسرعا لألحق بحافلة الجولة السياحية التي من المفترض أن أشاهد فيها أهم معالم المدينة فوجدتني قد تأخرت لدقيقة أو نحو ذلك، وذهبت الحافلة والجولة!!
هل هو درس الوقت والزمن المحسوب هنا في الغرب بالثانية، والمهدر عندنا بالساعات والأيام والأعمار؟! هل لنا مستقبل، ونحن نهدر الحاضر، وننزفه دقيقة وراء دقيقة، وفرصة تلو الفرصة؟!!
وهل علاقة المسلمين بالزمن اليوم هي العلاقة التي يريدها الله لخلقه وترضيه، وهو الذي يقسم بالعصر، ويقول في حديث آخر أنه سبحانه هو الدهر، ويحدد للمؤمنين أوقاتا متوالية يقفون فيها بين يديه، ويتجلى لهم في الثلث الأخير من الليل، فيكون وقتا مختلفا عما سواه؟!
كيف ندرك الزمن، وكيف نحسه، وكيف نستثمره؟!
لست مهووسا بالتجربة الغريبة على الإطلاق، وأرى أنها معيوبة في نقاط كثيرة، وأنها ليست أبدع ما يمكن أن تصل إليه عبقرية الإنسان، وهو يشيد ويبتكر، ولكن بالمقابل لا توجد تجارب أخرى تتحدى أو تتنافس مع تجربة الغرب!!
المسلمون يهزلون، ويخلطون الهبل بالشيطنة، وتضيع أعمارهم وأوطانهم وثقافتهم ولغتهم، وتاريخهم صار يهم غيرهم أكثر، وأرضهم صارت ملكا لغيرهم رسميا أو معنويا، وهم في الأغلب بين الجهل والكسل، والتعصب وضيق الأفق، والتقليد الأعمى لما لا يعرفون، ومناوشات ومعارك لا طائل من ورائها، ويضعون أنفسهم بجدارة وسط عالم التخلف والضياع، رغم أنه لا تنقصهم ثروة ولا رسالة توحي أفكارا رائعة للتقدم والعمران!!
لكنها الغفلة والاستبداد، والفرقة والتبديد، والغباء الثقيل! والنتيجة أن خبرة الغرب وتجربته تقف متحدية وتتمدد بقوة القهر والمكر والسلاح، كما بقوة الإعلام والترفيه، وأدوات التقنية، وصيحات الموضة، والبذور والجذور الوحيدة التي يمكنها أن تتحدى، كما حصل تاريخيا، صارت مدفونة عميقا جدا في تربة قاحلة من رماد احتراق أوقاتنا، ورمال صحرائنا الممتدة بلا واحة أمل إلا أن نفيق!!
ويبقى أن لدى الغرب ما نتعلمه لنخالفه أو نتمثله، ولديهم بعض خبرات ونقاشات ونقاط وأفكار ملهمة كما لديهم أنظمة تسيير وإدارة جعلت أهلنا يفرون من هنا إلى هناك حيث يجدون حياة أفضل رغم تضخم أوهامنا بأننا الأفضل طالما نزعم الانتساب إلى الدين الحق، وكأن الحق بالانتساب لا العمل والإبداع والتميز والبناء والمنافسة!!
بعد تجربة ممتدة في العمل الدعوي والسياسي والحركي والانقلابي والفكري يقول د. حسن الترابي في حوار له مؤخرا مع جريدة "المصري اليوم": "لن تقوم أية نهضة إن لم تكن مزودة ليس بالسلاح لهدم الباطل، وإنما بالأدوات اللازمة لبناء البديل الأصلح"!!
إنه البناء وأدوات البناء وخطط البناء، بناء العقول والأفئدة، والخطط والبرامج، والأفراد والتجمعات التي تنهض فتبحث عن الجذور المغمورة، والإمكانيات المدفونة والمغدورة لدين خانه أهله فما عادت لهم صلة به، اللهم إلا قدرتهم الفائقة على تشويهه والنيل منه!!
إنه التعليم بالمعنى الواسع فيكنس العلم الجهل، وهو في حياتنا كثير، وهو التفكير السليم، وبعث العقل والعقلانية المتحررة من قيود وعقبات وأغلال قرون من تكريس الاستبداد في البيت والمدرسة وقصر الحكم، إنه التمدن واستعادة زحام المبادرة بمواجهة التأخر والتخلف الكامن فينا، والنابع منا.
إنه الكفر بتقسيمات وقبائل وأصنام وطقوس ورايات وعادات وتقاليد وأسماء وأوصاف هي في مجملها واقعنا الذي نريد تغييره، ولن يحصل هذا إلا بامتلاك القدرة على نقده بعمق وتغييره بدأب وإصرار.
إنها رسالة ينتدب نفسه للقيام بها من شاء، ويراها محض أوهام من تسول له نفسه أن يبقى في الأماني سابحا، أو في الأحزان غارقا، أو في الاغتراب والشتات غير مأسوف عليه!!
إنها أحلام اليوم وحقائق الغد لمن يعرف أن الفن والدين، والعلم والروحانية، والعقل والتأمل، والمعارف والمشاعر، والأرض كلها كما السماوات يمكن أن تكون في سبيل الله خالصة، وفي مصلحة الإنسان خليفته في أرضه، وأن الخصام بين بعضها البعض مفتعل، وأوصلنا إلى ما نحن فيه اليوم،.......... تحت الأرض أكتب كلماتي هذه، وأحلم بالغد وما بعده!!
يمكنك الاستماع إلى حلقة خاصة من مونتريال
واقرأ أيضًا:
على باب الله: بناء أمة/ على باب الله: ماشي يا مصر