(1)
صخورٌ تتهاوى على الفقراء في واحدةٍ من عشوائيات القاهرة -عشوائية الكيان أصلا- فيسقط القتلى والجرحى وتحول الصخور دون الناس وذويهم أموات وأحياء والكيان المصري عاجزٌ عن الإنجاز، وأخيرا.... حين نطق ممثل الحكومة أعطى أهل المتوفى 5000 خمسة آلاف جنيه مصري...... أرخص من ثمن عجل الجاموس ثمن الواحد من بني الإنسان في مصر..... صحيح أنه لا مجال لتشبيه التعويضات الممنوحة من الحكومة المتفضلة وبين أسعار البهائم في سوق المواشي في مصر وصحيحٌ أن هناك من بني الإنسان في مصر أيضًا من يدفع لقتله آلاف الدولارات.... وما أجمل المقارنة التي عقدها الزميل محمد المهدي بين الفورسيزينيين والدويقيين......... ابني الأكبر طارق ينتظر السنة الثانية من دراسته في كلية صيدلة الجامعة الألمانية بالقاهرة يرتب أحلامه وحياته خارجا من الآن يعرف أنه لا عيش في هذا البلد بينما أنا ما زلتُ أصرُّ وأكابر للاسببٍ غير الناس أولئك الذين أرتبط بهم ويرتبطون بي وهم كثيرون بفضل الله،...... فجأة تعرف أن الغرفة التي يسكن فيها ولدي هذا شهورُ دراسته ضمن سكن الجامعة الخاصة يرتفع سعرها من 12 إلى 16 ألف جنيه قبل ابتداء الدراسة بأقل من شهر!..... أليس من الغباء أن تدفع هذا الثمن أصلا بدلا من أن تجعله خطوة في طريق امتلاك شقة في القاهرة مجنونة الأسعار -دون وجه حق- ويعني هذا اقتصاديا التضخم.... ما علينا كلها علامات العيش الضيق في هذا البلد حيث لا تعدَمُ كل يومٍ أكثر من حدثٍ يفتح عينيك على سوء الحال والانحلال.... ونادرا ما تلمح بصيص جمال في أي يوم ولا حول ولا قوة إلا بالله، ............وإذا أردنا أن نحكم عقلنا نهاجر كلنا كما قال ابن عبد الله وليس كما تقصده الحكومة أي (أن ننظم النسل)..... يا الله كم هو منحطٌ حالك يا أيها البلد الكظيم.
(2)
في العاشر من رمضان هذا العام مصر تشارك في حصار أهل غزة... يا له من عارٍ في رمضان وهو عارٌ في غيره لكنه في رمضان مؤلم أكثر ليس فقط لأننا نحاصر أهلنا المسلمين وجيراننا في هذا الشهر الفضيل ولكن لأن العاشر من من رمضان كان يوم انتصارٍ عظيم... ضيعناه في مصر مثلما ضيعنا كل شيء حتى ما ثبت ضياعه من وثائق مجلس الشورى... ولأن رمضان شهر انتصارات تاريخية متعددة للمسلمين ففي رمضان عام 223 صاحت امرأة اعتدى عليها بعض الجنود الروم: وامعتصماه فلما وصلت الاستغاثة الخليفة المعتصم قال: لبيك أختاه وانطلق 250 ألف رجل من جيوش المسلمين حتى فتحوا عمورية في 17 رمضان سنه 223 ، وفي 25 رمضان 658 هـ نادي قطز في جنده وا إسلاماه فكانت الهزيمة القاسية في عين جالوت في صفوف التتار الذين اجتاحوا كل بلاد المشرق ولم تعد لهم بعد ذلك قائمة.... كم من امرأة في فلسطين وغيرها يعتدي عليها جنود الاحتلال اغتصابا وقتلا تهتف وامعتصماه!! ولا معتصم يجيب و كم من فتي وشاب ورجل يهتف وا إسلاماه ولا أحد يجيب, ُصمت الآذان وضعـفت الهمم وأصبح الأمر لأراذل الناس فضاعت بلاد المسلمين..... كما يقول بلاغ النائب حمدي حسن وقد دعا لمناصرة أهل غزة في العاشر من رمضان ومنعت السلطات المصرية القافلة التي اتجهت إلى رفح فأوقفتهم السلطات قبل أو عند الإسماعيلية... نحن نرفض رفع الحصار عن غزة أو لا نستطيع خوفا من ماذا؟؟؟ الله وأعلم ورسوله والمؤمنون... بعضهم وليس كلهم هذه المرة.
(3)
دار حديث مرةً لا أذكر تفاصيله حيث أبدى ابن أختي الأكبر (طالب بالسنة الثانية كلية طب بشري ومن ذوي اللحى الشبابي الخفيفة ملتزم وفاضل) أبدى استغرابه من حالة النوم التي تصيب الناس في نهار وربما ليل رمضان.... وردت أمه قالت ليسوا مثلنا يا ولدي هم لا يدربون أنفسهم بصيام التطوع... شعرت بالخزي داخلي وسألت الله أن يمكنني منه لأنني أيضًا من الذين يعانون انسحاب النيكوتين في رمضان... وفي نفس اليوم في طريق العودة للعيادة بعد الإفطار... جعلتُ أتأملُ أن المنهج التربوي الإسلامي يقتضي بأن نربي أولادنا على صوم التطوع كجزءٍ من حياتهم وهذا ما يبدو أننا نسيناه كأمة إلا من رحم ربي.... بالتأكيد من المهم أن تجرى دراسة تقيس الفروق النفسية والعضوية بين الصائمين في رمضان بحيث تقارن بين مجموعتين الأولى تشمل معتادي صوم التطوع والأخرى تضم أمثالنا من السواد الأعظم من المسلمين في عالم اليوم... المهم هنا هو ما معنى التربية الدينية للأولاد في المدارس؟؟ وهل من أهداف القائمين بها تدريب الأولاد على صوم التطوع؟... أم يُكْتفى ونحمد الله أن أولادنا يصومون رمضان؟؟... وهو ما أخشى أننا قريبا سنفقده إذا بقينا بهذا الحال، وهل يقف الأمر عند هذا الحد لابد أن أفعالا أخرى من النوافل المنسية في أمة المسلمين كانت ستجعل الفروض أيسر والأداء أفضل وهذا افتراض يدعو إلى دراسة علمية موضوعية للأمر.
سمعت طرف حديث في الجزيرة عن دراسة قام طبيب نفساني استشاري أردني غالبا كما خمنت من الاسم وكان موضوعها أو جزءٌ منه هو دراسة أحوال الشباب والمراهقين النائمين معظم نهار رمضان بطول الأمة الإسلامية وعرضها وكيف أن في هذا خروجا عن المقصود من شهر الصيام معرفيا وسلوكيا ودينيا.... شعرت بأن هناك من يجب التواصل معه وللأسف نسيت اسم الرجل ولعلني من هنا أدعو كل من يقرأ ويعرف ما هي الدراسة المقصودة أن يرشدني إلى صاحبها........ وعاد لي التفكير في المنهجية التي ينبغي أن تكون عليها التربية الدينية في مدارسنا وازددت اقتناعا بأننا همشناها منذ زمنٍ بعيد وأكاد أتهمُ بأنها قليلة التأثير في الأجيال الصغيرة ولولا البيوت لانهرنا بأسرع وأسرع مما نحن فيه.
(4)
تخلل ما سبق ما يلي وربما تلا بعضه وأتى لاحقا... لكن الحدث المنظم للأفكار التي طرحتها والممحور للأحداث التي حكيتها سابقا كان التصوير لفضائية "أنا" الجديدة...... وأنا في الطريق إلى أحد استوديوهات التصوير في منطقة سقارة على جانب ترعة المريوطية فجر يوم الجمعة الماضي 12 رمضان و12 سبتمبر أيضًا... تذكرت ما حدث لي عندما كنت أصور لقناة لا أعرف إن كانت قد ظهرت أم لا تدعى قناة العدالة... وصدمني أن رأيت في الفيلا مكان التصوير حماما لا تفسير له إلا أنه حمام أسرة من الموسوسين...... وحين وصلت مكان التصوير لقناة أنا في ذلك اليوم فوجئت بالتدريج أنها أول قناة يوسوس القائمون عليها في كل شيء تقريبا بدٍْا من الماكياج الذي كان تجربة أتعرض لها لأول مرة في حياتي ومرورا بتفاصيل لا حصر لها في نبرة الصوت وفي وضع رباط العنق وجانبي الجاكت.... وكانت معي الأستاذة سمر عبد والأستاذة أميرة بدران وكلتاهما تمثلان فريق الإعداد، وأما مقدمتا البرنامج فكانت أستاذة سلمى عبده وست الكل د. نعمت عوض الله، بصراحة هؤلاء كانوا طبيعيين كما عهدتهم لكن المصورين ومسئولي الإضاءة والملابس وغيرهم كانوا على غير المعتاد في معظم الفضائيات..... هم دقيقون في غير وسوسة ولكن هذا غير معتاد في الفضائيات المصرية كلها بلا استثناء وصراحة لا أدري إن كان الفرق سيظهر كبيرا في الشاشة؟ دعونا ننتظر لنرى...
(5)
يحكي لي أحد مرضاي المكتئبين عن المستوى الذي تلجأ له الحكومة لتحصيل الضرائب من صغار التجار ما لا أصدقه في البداية فأسأل عنه فيؤكد نعم المحضر إذا جاء مطالبا بالدفع أو الحجز على الممتلكات ولم يكن صاحب العين موجودا فإنه أي المحضر يحرر ضده صك اتهام بأنه بدَّدَ شيء مما كان مفترضا أن يحجزَ عليه.... وبالتالي اتهم صاحبنا بأنه بددّ ثلاجة من ضمن محتويات المتجر بينما في الأصل لا توجد ثلاجة في معرض الأثاث المقصود!....... قلت له أليس تعرض القضية على القاضي فيقول القاضي أصلا يحكم للحكومة لأنني في نظره متهرب من دفع الضرائب... قلت له هذه أصلا تهمة يكفيهم إثباتها ... فيقول لي: هم يتهمونني بالتبديد أصلا ليقطعوا علي طريق الطعن أو التملص من تهمة التهرب قلت له يتهمونك ولو زورًا فقال نعم ولو زورا... الحمد لله أنني لم أشتبك مع هذه الحكومة بشكلٍ أكون فيه متهما..... أدام الله السكون.... ولكن أنا غير متخيل لكيف تلجأ العدالة لغير العدل لكي تقيم العدل؟ وكيف يصير ذلك شائعا في كثيرٍ من الحكومات المطبقة لمفهوم "العدالة الحكومية".....
(6)
شغلني كذلك ما وصلت فيه من النقاش والاستنتاج ووضع الخطة السلوكية مع أحد مدمني الهيروين.... بعدما أكملنا إعادة الهيكلة المعرفية بحيث تغيرت مفاهيم كانت خلف سلوكياته القديمة مثل "الجدعنة" كما نقول في مصر والشهامة والكرم... ولكن خلف أي سلوكيات توجد هذه المفاهيم في حياته؟ توجد خلف سلوكيات الرجل التاجر الكبير الذي يخجل من أن يقصده الطالب للهيروين ولا يساعده في تحقيق طلبه كان يرى أن خذلان هؤلاء الأصحاب نذالة وقلة رجولة وعدم "جدعنة".... أي أنه كان يتركُ حاله وماله ليأخذهم إلى تاجر المخدرات هنا أو هناك ويسمي هذا جدعنة والتخاذل عنه نذالة وقلة رجولة!.... كانت لديه مشكلة كبيرة في أن يقول لا.... فكانت الخطة لعمل سريعا باختصار أن يطلق لحيته وأن يعتاد المساجد بدلا من الصلاة في البيت وحده ولو بنية أخذ العزوة الاجتماعية الناجمة عن هذا... يعني أن يتظاهر بأنه أصبح ملتزما فيخلص من معظم أو كل هؤلاء الأشرار..... قال لي لعلهم يقولون ترك وزهد وتدين بدلا من أن يقولوا أصبح خوافا.... قلت له ولو ليست القيمة في القول وإنما في من يقول وهؤلاء كما اتفقنا أشرار..... هل أنا بذلك أدعوه إلى الرياء؟؟ أم أنني أعلمه كيف يحتمي من الأشرار بادعاء القرب من الله؟؟
(7)
عمره 14 عاما وهو ولد بعد ثلاث بنات لأبيه التاجر الكبير الملتحي وأمه المنقبة.... كانت الشكوى من أهله تصرفات غريبة يا دكتور مدمن إنترنت ويترك الدروس ويذهب لمقاهي الإنترنت ويكذب ويسرق ويهرب من البيت.... يعني اضطراب تصرف مكتمل المعالم... في الجلسة الثانية مع الولد سألته هل بلغت؟ فكانت المفاجأة أنه لا يعرف معنى السؤال؟ هل احتلمت فقال يعني إيه؟ ألم تدرس شيئا عن ذلك في الأحياء قال لم أدرس مادة الأحياء فانتبهت وقلت له أقصد مادة العلوم فقال لي لا أذكرُ شيئا إلا درسا اسمه الفيروسات... وحين سألته ما هي الفيروسات لم يستطع الإجابة بأكثر من مثل الأنفلونزا..... استفزني ذلك جدا فأخذت أشرح له معنى فيروس والفرق بينه وبين البكتريا التي بدأ أنه سمع عنها... وحين أصبحت أكثر هدوءًا سألته هل تعرف أشهر الفيروسات فلم يجد أي إجابة فقلت له ولا حتى الإيدز؟؟؟ فأجابني لا أعرفه!........
سألته كيف كنت تقضي وقتك في سنينك الماضية فأجاب المدرسة والدروس والنت.. ماذا تفعل على النت فأجاب ألعب....، .....سألتهُ تلعبُ ماذا قال كرة يا دكتور... فأوضحت له الفرق بين لعب الكرة في الملعب بحق وحقيقي... ولعبها على الشاشة وأنت جالس مكورٌ تبحلق في الشاشة ولا يتحرك منك على الأكثر غير أناملك وربما رقبتك تأخذ أوضاعا ضارة على المدى الطويل.... بدا لي أنه يفهم أشياء كثيرة لأول مرة والمشكلة أنها من بديهيات التفكير والمعرفة!... هذا الولد الطيب (رغم أن تشخيصه الطبي النفسي هو اضطراب التصرف)..... قضى ما مضى من حياته لا نشاط له يأتيه أكثر من اللعب الإليكتروني على الكومبيوتر أو البلاي ستيشان أو على النت... شرحت للولد معنى البلوغ والاحتلام ومعنى التكليف في عجالة ونصحته أن يقرأ وأن يسأل... وحقيقةً لا أستطيع أن أفهم ما هو الدور الذي يقوم به التعليم إذن في مصر؟؟؟..... وشرحت له كذلك أهمية وحرجية الفترة التي يمر بها من سنوات عمره وكيف يجب أن يسعى لبناء شخصيته ومهاراته ومعارفه وثقافته...... أفهمته الفرق بين التعامل مع الأفراد في مقهى الإنترنت أو مجتمع الإليكترونيات حيث يتعامل الجميع وهم يلعبون وكل بنصف انتباه على الأكثر لأنه يركز في اللعبة أكثر أو في الجهاز أكثر... أبدى لي أنه يفهمني واتفقنا أن يبدأ البحث عن رياضة يفضلها..... خطوة مبكرة جدا كان مفروضا أنه تجاوزها من زمن لكن وماله... ليس ذنبه أنه جاء في هذا العصر ولم ننتبه نحن جيدا لما يحدث للنشء.... فهذا الولد ليس أكثر من نموذج كثيرا ما نصادفه في عملنا كأطباء نفسانيين وأتمنى ألا نغفل التحليل والتشاور في هذا وفي غيره.
ويتبع >>>>>>>: شذراتٌ في الحال والأحوال2
واقرأ أيضًا:
شكرا سوريا مؤتمر مختلف4 / الإسكندرية من 5 إلى 7 نوفمبر 2008