هل يولد الإنسان إنسانا أم أنه يوجد مشروعا لاحتمال أن يكون "بشرا سويا"؟ ما هي الحقوق الطبيعية والحقوق الموضوعة، والفرص المتاحة، والأنظمة المنضبطة، والتربية الصحيحة التي تتيح الفرصة لهذا الكائن الحيوي الباديء، أن يحقق مشروعه، فيتخلق إنسانا يتمتع بسمات أعلى مثل: الوعي والكرامة والاختيار، كما يعيش حقوقا أرقى مثل: الاعتراف به، واحترام رأيه، وإقامة العدل بينه وبين أفراد نوعه؟
تبدأ خطوات تحقيق هذا المشروع بأن يولد الإنسان من أُمٍّ تتمتع بهذه الصفات، في أسرة تمارس هذه الصفات، هي وحدة في مجتمع يعرف وينمي هذه الصفات، مجتمع هو جزء من عالّمٍ يسعى إلى تحقيق هذه الصفات، فيتخلق الوليد بمرور الزمن "إنسانا" له قيمة وكرامة ومعنى.
أين هذا مما نحن فيه الآن في مصر المحروسة؟
لن أتعرض لحكم المحكمة في جريمة العبارة، فليس هذا هو موضوعي، ولا هو من حقي، كما لن أتعرض لآلام الفقد، ولا لفجيعة الأهل، ولا للشعور بالظلم، ولا للاشتباه في خلل الضمائر، لكنني أتساءل عن موقفنا نحن الأحياء "هنا والآن"، وما تبقى من الضحايا فينا، هل ماتوا وانتهوْا، أم أنهم مازالوا داخلنا؟
ما هي الرسالة التي وصلت إلينا؟ كيف يتلقى أولادنا معنى الجاري، قضاءً وإعلاما؟ هل يدفعنا ذلك، دون قصدٍ، أن نراجع "قيمتنا" أنفسنا أمام أنفسنا وأمام الله؟ كيف؟
تعلمتُ من "علم العقاب" من أساتذتي المستشارين أثناء إسهامي في إعداد رجال القضاء المبتدئين أن للعقاب وظيفتين هما: "الردع الخاص": أن يرتدع المجرم فلا يعود لإجرامه، والردع العام: حتى يعلم سائر الناس أن الجريمة لا تفيد، وأن من يرتكبها منهم سوف يلحق به نفس الجزاء الذي لحق بالمجرم المُدان، ومن هنا جاءت حكمة علانية المحاكمات إلا للضرورة القصوى، هكذا يتعلم الناس من القانون وتطبيقه تحت سمعهم وبصرهم كيف يسهم العدل أن يقوّمنا لنواصل مسيرتنا لنكون "بشرا أسوياء" في مجتمع سليم، ويظل "الإنسان على نفسه بصيرة، ولو ألقى معاذيره"، حتى لو كانت تلك المعاذير هي حكم المحكمة.
شغلني ردحا من الزمن اهتمام الإسرائيليين باسترداد رفات موتاهم، وكيف يتبادلون حفنة من التراب وبعض العظام وجمجمة بعشرات أو مئات الأحياء من أسْرانا الأحياء الأقوياء الخطرين عليهم فور عودتهم، ما هي الرسالة التي تبلغها حكوماتهم وإعلامهم هكذا إلى ناسها من الأحياء مهما كانت مبنية على خرافات غبية وأساطير فوقية؟
فهمت مؤخرا، خاصة بعد التبادل الأخير بين حزب الله وإسرائيل أن الحكومة الإسرائيلية –بذلك- تقول للمواطن الإسرائيلي –ولو إيهاما وغرورا-: أنت عندنا لك كل هذه القيمة حيا وميتا، ومن ثَمَّ يتشكل انتماؤه للأرض التي يعيش عليها (مع أنه اغتصبها من أهلها)، وللناس الذين احترموه، ولو دون أحقيته في ذلك.
رجعت للتأمل المقارن وسألت نفسي ذات السؤال: ما هي الرسالة التي يمكن أن تصل المواطن المصري، خاصة الأصغر فالأصغر، من المشهد الجاري هذه الأيام: قضاءً وإعلاما؟ أنا شخصيا وصلتني رسالة خشيت منها على صغارنا، رسالة مؤلمة، تقول: أنت لا تساوي شيئا، بل لعلك عبء علينا بوجودك وإصرارك على إنجاب أمثالك، أنت لستَ من حقك أن تواصل مسيرتك بشرا، أنت بلا قيمة ولا كرامة ولا شيء.
حضرني مصطفى كامل يغيظني وهو يبرم شاربه ساخرا ويردد: "إني لو لم أولد مصريا لوددت أن أكون مصريا"، فتقفز إلى وعيي أغنية غنيتها يوماً مع فريق الجوالة إلى الشام بأعلى أصواتنا في شوارع بيروت سنة 1954 "اسلمي يا مصر إنني الفدا"، لأتوقف عند مقطع ".. إن رمى الدهر سهامه، أفتديها بفؤادي، واسلمي في كل حين"، كنا نغنيها بأعلى صوت، فتهتز الراحلة، ويصفق لنا الناس في الشوارع.
كيف يفتدي شبابنا اليوم مصر بفؤاده وهذه هي قيمته كما تصل إليه من كل الجاري دون استثناء؟
هل عرفنا الآن لماذا يتزوج الشباب المصري إسرائيليات، ولماذا ينتحر على شواطئ إيطاليا دون حاجة لجهود أصحاب العبارات!!
وبعد؛
أخشى ما أخشاه أن تتراكم أكثر فأكثر تلك الرسائل التي تصل شبابنا خاصة من مثل هذه التجاوزات والصفقات والتربيطات والإهانات والظلم، فيمتلئ وعيه بشعارات وهواجس عكسية، حضرني منها مثلا:
"إنني لو لم أولد مصريا، لكانت أمامي فرصة أن أكون بشراً سويا..."
"إنني لو لم أولد مصريا، لفضّلت أن أكون....."
أرفض أن أتمادى لأتقمص شابا مصريا آخر يقول:
"إنني لو ولدت إسرائيليا...."!! يا خبر!! هل هذا ممكن؟!!
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
لا.. لن يستمر "هذا" هكذا أبداً، أبداً.
اقرأ أيضا:
تعتعة سياسية: تألّم: الصورة تطلع حقيقية / تعتعة سياسية: فِـرِسْـكاَ / تعتعة سياسية:.....لوددت أن أكون