منذ كتبت تعتعة يوم 28 مايو، والرسائل تنهال عليّ تطمئنني أنّي لم أشطح، وأنهم اكتشفوا بدرجات متفاوتة أن هذا الشيء الـ"ما"، لازال ينبض فيهم فعلاً ووعداً وتحديّاً، ثم كتبت مقال الأسبوع الماضي بعنوان "إنّي لو لم أولد مصرياً" حاولت أن أنبّه فيه –بعد حكم العبارة- أننا، هكذا، معرضون لفقد هذا الـشيء الـ"ما".
رد واحد على المقال الأخير أزعجني حتى الغضب، وآلمني حتى الندم، جاءني من ابن زميل يعمل طبيباً نفسياً في الإمارات العربية، وهو قارئ جيد، وطبيب حاذق، ويكتب لي كثيراً مادحاً، شاكراً، ناقداً، مشجعاً، لكنه هذه المرة كتب ما أثارني حتى كدت أندم على ما كتبت، فقررت أن أرد عليه، حتى أوضح موقفي. قال:
1) للاحظت أن المصري يريد أن يأخذ أكثر مما يعطي
0 ... لا أحد يعطي للمصري حقوقه، لا في الداخل ولا في الخارج، ومع ذلك، فهو يعطي بطريقته. مصر كلها تعيش من عرق أولادنا الذين يواصلون الليل والنهار وهم يحملون قصعات الخرسانة، ليبنوا بها قصور القادرين عندك يا بني، ثم يعودون بقروشهم الثمينة (إذا لم يغرقوا في البحر الأحمر)، ليحركوا اقتصادنا دون فذلكة، أو منّ.
2) إإن حكاية الكرامة التي يتغنّى بها هي وهم، فهو يتنازل عنها في سبيل تحقيق أي مكسب
0 قل لي بالله عليك من الذي أعطى المصري الكرامة في بلده حتى يحافظ عليها وهو يعرق ليجمع قوت عياله أو ثمن علاجه.
3) إن المصري قد ألف العيش في القذارة، انظر إلى الشوارع المصرية وأكوام الزبالة
0 هل هذه مسؤولية فردية حتى نحاسب الناس عليها وهم يعيشون بلا حكومة معظم الوقت في معظم الأنحاء؟ المصري لم يتعلم النظافة ثم تركها إلى القذارة، وعموماً قذارة الشوارع أحسن من قذارة الذمم، وقذارة الضمائر.
4) إن المصري مستكين يرضى بالذل والهوان ولا يثور إلا ثورة القطيع
0 لا يا شيخ، لا تجعلني ألمز أبا يحيى رئيس التحرير وهو يقول مثلك، للمصري طريقته الخاصة في الثورة، تاريخاً، ولتبدأ بنفسك، وأبدأ بنفسي.
5) إن المصريين أقل الناس إبداعاً وهذا يفسر احتماءهم بالتدين الشكلي دون الجوهري.
0 هكذا خبط لصق! أقل الناس إبداعاً؟! من أين لك بهذا الحسم والتعميم؟ وما هو تعريف الإبداع عندك؟ وماذا تتابع من إبداع كل المصريين؟ ثم خذ عندك إبداعات أخرى لا تخطر على بالك: المصري يبدع قوت يومه، ويبدع كيف يتعايش مع البشر في مجتمع بلا دولة تحميه، ويبدع أن يواصل عمله بأقل رعاية صحية، ويبدع العرف الذي يحلّ به مشاكله أحسن وأسرع من المؤسسات القضائية المعاقة. المصري يصل إلى عندكم "طرزاناً"، ينتقل من عمل إلى عمل مثلما ينتقل طرزان بين الفروع، مبيض محارة، ماشي، نجار مسلح ما يضرش، نقاش تحت أمرك، سباك نتعلمها، وهو سرعان ما يتقن أيّاَ من ذلك...
6) إن المصري لا يقدّر قيمة العلم، فهو لا يؤمن به ولا يطبقه في حياته، انظر إلى نسبة انتشار الالتهاب الكبدي التي لا تضارعها أي نسبة في شعوب العالم
0 بذمتك، وأنت النطاسي الماهر، هل انتشار الالتهاب الكبدي هو نتيجة لأن المصري لا يؤمن بالعلم؟ وهل تحلف أنك قرأت بحثاً واحداً يثبت أن هناك فيروس اسمه فيروس س، ألا تعلم أن كل هذه الضجة، والسرقة، والجرسة، لأنهم وجدوا جسماً مضاداً أسموه كذلك، لكنهم لم يجدو أبداً هذا الفيروس المزعوم.. إلخ.
7) إن المصري من أقل الناس انتماءً لبلده، انظر إلى سلوك الناس وتعاملهم مع الممتلكات العامة
0 أليس علينا أن نبدأ بأن يكون لنا وطن، يحترم فيه من يقيم فيه، وطن يقام فيه العدل، وتتساوى الفرص، ثم نطالب المقيمين فيه بعد ذلك أن ينتموا إليه. كتبت مقالي السابق لأبيّن ذلك، برجاء مراجعته.
8) إن المصري لا يتذوّق الجمال، انظر إلى شكل الأرصفة في شوارعنا
0 تذوق الجمال ليس في أن تشاهد لوحة نادرة، وحكاية شكل الأرصفة ليست هي مقياس الجمال، تذوّق الجمال ضرب من الإيمان، هو تناغم وارد، يحتاج وعياً نقياً، لا يتحقق لا للمصري ولا لغير المصري، بمجرد العناية بالشكل مع أهميته، وعندي أن استمرار هذا "الشيء الـ ما" فينا، برغم كل ما قلنا، هو لأنه ما زال فينا جمالاً مؤلماً غالياً لم يمت.
وبعد،
أشكرك يا بني العزيز، إن قسوتك هذه جعلتني أرجع في كلامي:
إنّي لو لم أولد مصرياً لوددت- بجد- أن أكون مصرياً رغم أنفك، وأنفي.
نشرت في الدستور بتاريخ 13-8-2008
اقرأ أيضا:
تعتعة سياسية: فِـرِسْـكاَ / تعتعة سياسية: إني لو لم أولد مصريا...!! / العودة من المنفى: درويش، ذلك الشعر الآخر