كان اليوم هو الأحد حاملاً الرقم 20 لكل من شهري سبتمبر ورمضان الكريم، وكان البداية الحقيقية لبدء العام الدراسي الجديد، ومن الطبيعي في مدينة ملوثة ومزدحمة مثل القاهرة أن تكون المواصلات غير محتملة ومثيرة للأعصاب لازدحامها الشديد ولعدد البشر المهول الذي يتجه لعمله ومدارسه وجامعاته في نفس الوقت.
كنت أتجه لميدان الرماية عند الإشارة أمام فندق الميرديان وهنالك شاهدت ضابطاً برتبة ملازم أول، وأقول لكم أني أحتقر وأرهب ضباط الشرطة بمنتهى الصراحة، على الرغم من أن بعض أقاربي ينتمون إليهم، إلا أن مشاعري كلها سلبية تجاه الضباط ورجال الأمن عامة بعد كل ما كشفته الصحافة ووسائل العلام المختلفة من جرائم تعذيب تنتهك أبسط الحقوق الآدمية.
وهو ما أكاد أجزم أنه شعور غالبية الشعب المصري ولعل الصديق الدكتور محمد المهدي خير من يحدثنا عن علاقة المصريين برجال الشرطة.
رغم الجملة الاعتراضية السابقة الطويلة إلا أنها ضرورية لتفسير وقوفي أمام الضابط متسائلة في حيرة وأنا أعرف إجابة سؤالي: أين تقف عربات رمسيس؟
كانت محاولة لكسر الرهبة التي أشعر بها تجاه هذه الفئة "ولي محاولة أخرى أكثر إثارة مع ضابط مباحث سأرويها لكم في مدونة قادمة بإذن الله"، أما هذه المحاولة فقد أسفرت عن مفاجأة غير متوقعة إطلاقاً، لقد لاحظت بوضوح وجهاً لم أكن أتخيل أبداً أن تصافحه عيناي في هذا الموقف، وجه يملؤه القهر! والطيبة معاً!
وكانت دهشتي كبيرة لأن وقعت في فخ التعميم الذي يتنافى مع أبسط قواعد المنطق، وأنا حمقاء أن أفعل، أعترف بهذا !
وتماديت في "استهبالي" وأنا أعرف إجابة سؤالي القادم أيضا.فقلت له بابتسامة صغيرة: حضرتك ملازم أول، صح؟
ابتسم في تأكيد أي نعم.
وكنت أخذت قراراً منذ التحاقي بقسم صحافة بكلية الإعلام بجامعة القاهرة أن أتعامل قدر استطاعتي مع من أشعر نحوه برهبة لأكسر هذا الإحساس الذي يخنقني ويتناقض مع طبيعتي، وفعلته بجدارة مع أستاذة من أساتذتي بالقسم معروف عنها "جبروتها" مع الطلبة، وتسلطها عليهم فانضممت لجماعة بحثية تشرف هي عليها كي أحتك بها، وقد نجحت هذه الطريقة بجدارة، وذهب حاجز الرهبة بعد محاولات مني ألا ارتجف أمامها وأمام سطوتها... والحمد لله. بل الطريف أن بيننا علاقة جيدة الآن لأني لا أزال أتردد على الكلية بحكم دراستي للدكتوراه بها وقد جمعني بها سيمينار علمي (حلقة بحثية) بقسم الصحافة بالكلية في شهر يوليو الماضي، وقد كانت لطيفة جداً معي!
سبحان مغير الأحوال!
أعود وأكمل حديثي عن وقوفي بميدان الرماية، في طريقي لساقية الصاوي بالزمالك حيث تطل على النيل الخالد، الذي ذبت فيه عشقاً وهياماً في مدونة سابقة.
ولم يأتي الميكروباص الذي أستقله ولأني غير صبورة ولا أتحمل فكرة انتظار وسيلة الانتقال بما فيها التاكسي –أكثر وسائل المواصلات رفاهية في مصرنا المحروسة- لهذا فقد قفزت في مغامرة غير محمودة العواقب إلى أتوبيس ضخم متجه للإسعاف برمسيس ومن هناك استقل ميكروباص (كيت كيت) الذي يمر على الساقية من أعلى كوبري 15 مايو.
وربما كنت أريد الذهاب للساقية من طريق مختلف يعيد لي انتعاشي المفقود في ظل روتين الحياة القاتل الذي يمزق طبيعتي المتمردة. أو ربما كنت أرغب في توفير الثلاثين جنيهاً أجرة التاكسي إلى هناك، أو للسببين معاً قفزت في الأتوبيس!
لم استطع تحديد السبب، المهم أن النتيجة واحدة، أصبحت داخل الأتوبيس لتكون مفاجأة أخرى أن المقاعد كلها شاغرة فأتجه بثقة إلى مقعد "المحصل" الكمثري، وجلست وسط تأمل ودهشة بعض الركاب، هكذا أنا لا أبالي كثيراً لنظرات الناس وقد تعدونه عيباً إلا أنني أشعر بالارتياح الشديد حين أكون نفسي على الرغم من اعتراض ودهشة الآخرين، لأنهم آخرون وليسوا أنا! خاصة وأن ما أفعله ليس عيباًَ ولا حراماً... ربما يكون غير تقليدي أو استثنائي..حسنا... هكذا أنا إذن... فتاة غير تقليدية!!
واستغللت فراغ أحد المقاعد فتركت كرسي المحصل سريعاً وجلست على المقعد الفارغ، وبدأ الأتوبيس في الازدحام الشديد، حتى جاءت هذه المرأة، امرأة عجوز منهكة تقف أمام مقعدي، فكدت أقف لها لتجلس هي إلا أن إرهاقاً يجتاح جسدي منعني من هذا، فتحدثت لها بقولي: حضرتك نازلة فين؟ أجابت في شبرا، وشبرا هذه آخر خط الأتوبيس. فأشفقت عليها من الوقوف كل هذه المسافة من الهرم إلى شبرا! فهو انتقال من محافظة الجيزة إلى محافظة القاهرة! فقلت لها في تعاطف: أنا نازلة متأخرة شوفي حد نازل قريب لتقفي أمامه لتجلسي .
ردت بألم وضيق: وأنا هتحايل عليهم عشان حد يقوم لي.
ما أن سمعت جملتها حتى هتفتُ بصوت عالٍ بالأتوبيس: يا ريت يا جماعة حد يقف للست الكبيرة دي، ياخد ثواب في الأيام المفترجة دي.
وفوجئت أن رجلاً واحداً قام للسيدة العجوز وهو الراكب الجالس بجواري وكأن الله دبر أن أحظي بمجالسة هذه السيدة الطيبة التي تبدو أكبر من أمي الحبيبة شفاها الله ومد في عمرها ورزقها الصحة والسكينة.
كان من الطبيعي أن تدعو لي السيدة: ربنا يا بنتي يديك الصحة ويكرمك.
شعرت أنها من أجمل الدعوات التي حصلت عليها في حياتي لأنها قالتها بإخلاص وصدق رائعين، حتى أن عيناي دمعت ووجدتني لا إرادياً أقول لنفسي: ربي إني لما أنزلت إلي من خير فقير.
هل يتشابه موقفي مع موقف سيدنا موسى والمرأتين اللتين كانتا تزودان كما روى القرآن الكريم؟ حين سقى لهما ثم توارى إلى الظل قائلاً نفس الجملة التي هتفت بها لنفسي في تأثر من دعاء السيدة.
وشعرت أني بحاجة إلى أن أتحدث إليها فقلت بابتسامة صادقة: حضرتك زي والدتي.
بدت عليها بشاشة طيبة فزادت سعادتي بمقابلة هذه السيدة ولو مرة واحدة في حياتي، فلحظات الثراء الإنساني في حياتنا فعلاً قليلة إن لم تكن نادرة.
وفوجئت بها تروي لي سبب ذهابها لشبرا وكأنها تفتقد بشدة التواصل مع الآخرين. وكانت تتحدث ببساطة وقرب إنساني محبب يدخل القلب برقة .
ترى هل تعاني من فقدان التواصل مع أبنائها فوجدتها فرصة مناسبة لتتحدث مع فتاة غريبة عنها مثلي؟ هل تعيش بمفردها بعد وفاة زوجها وزواج أولادها؟ هل تشعر بالوحدة؟ لا أدري ولن أدري.
جاءت محطتي الأخيرة فنزلت وهي تودعني بنظراتها الحانية.
وبعد ما يقرب من الربع ساعة كنت جالسة أمام النهر الرائع الذي يهب لنا –المصريين- الحياة، نهر النيل الجميل.
كالمعتاد، لحظات رائعة تلك التي قضيتها بالساقية، أمام المساحات الخضراء والمياه المنسابة في دفء أمامي .
وبعودتي لبيتي انتهت اللحظات الإنسانية في يومي وبدأت لحظات الروتين اليومي الممل.... عملي أمام شاشة الكمبيوتر... تصفحي للإنترنت الذي زاد وقته المحدد يومياً بعد إنشائي مدونة على الشبكة وكنوع من إدمان متابعة الأخبار وفحص بريدي الالكتروني فلدي أحد أعراض إدمان الإنترنت وهي إحساسي الدائم أن هناك رسالة ما في غاية الأهمية والخطورة ستصلني في أي وقت لذا فإن تصفح بريدي الالكتروني أمر يتكرر حوالي 5 أو 6 مرات يومياً وكأنني شركة اتصالات ولست فرداً واحداً!
وانتهي يومي بملل رتيب بعد أن بدأ بحيوية ولحظات حميمية رقيقة.
واقرأ أيضًا:
يوميات ولاء: سرطان الروح وأشياء أخرى / يوميات ولاء: ليلة لا تنسى / يوميات ولاء: حكايتي مع أول سيجارة