من أكثر الصعوبات التي مررت بها وأعاقتني في أحيان كثيرة أو أعاقت غيري هي طريقة التواصل مع الآخرين، ففي كثير من الأحيان كنت أقف متفاجئاً مما أقدم عليه أحدهم، فأقول في نفسي هل من المعقول أن يفعل فلان هذا، إن فلان معروف بكذا وكذا فكيف أقدم على هذا العمل؟
فشخصية فلان من الناس قد لا يناسبها أو لا يصدر منها الفعل التالي، لكن الشخصية تعرف على أنها عبارة عن ثبات نسبي في السلوك والصفات، مما يعني أن النسبية هي غير مكتملة، فلو تصورنا أن من طبع على الكرم وقد اشتهر به، فإن ذلك من إحدى مميزات شخصية علي حيث أن قيمته، وسلوكه، وإطاراته المرجعية من فكرية ومعتقدات إضافة إلى ردود فعله العاطفية تجاه المواقف، تجعله يتبنى سلوك الكرم كمميز له يتناسب وكل ما سبق وذكرناه، لكن في أحد المواقف قد نفاجأ بأن علي تصرف بطريقة تدل على التقتير والبخل، مما يجعلنا نستغرب ذلك من علي، رغم أننا لو قمنا بتحليل الموقف فسنجد سبباً ما وراء هذا السلوك الذي يناقض أهم الصفات الشخصية لعليّ وهي الكرم؛
وهنا أريد أن أسأل سؤالاً نجيب عليه بكل صراحة وموضوعية وصدق، ألا نستغرب نحن من أنفسنا أحياناً لقيامنا بعمل ما لا يتناسب وشخصيتنا، فنكون قد ترعنا وكنا مندفعين لدى أداء هذا العمل أو أننا لم ندرك عواقب هذا الفعل لكوننا تصرفنا ببساطة شديدة، أو أحياناً بحماقة والاعتراف فضيلة، فنحن نتسرع أو نتشتت أحياناً، وأحياناً نكون تحت ضغط الوقت أو الموقف، أو ضغط الآخرين مما يجعلنا نسلك بطريقةٍ خاطئة، إذن فكيف نلوم الآخرين بطريقة زائدة؟ فنحن هنا لا نناقش لوم الآخرين لخطأ كبير أو جسيم، إنما نقول أنه من حق الآخرين علينا في كثير من الأحيان أن نفهم وجهة نظرهم، ومنطلقات سلوكهم، فكما يقال إذا عرف السبب بطل العجب، فنحن والآخرين بشر نخطئ ونصيب ونتسرع ونندفع ونرتكب الحماقات أحياناً، لكن إذا كان السلوك مقصوداً أو بنيّة وتخطيط، فإن الأمر يختلف كلياً بالحكم عليه وتقديره.
ولا نكتفي أحياناً بأننا نرتكب الخطأ بأن نتسرع بالحكم على الآخرين، وأن نتوقع أنهم يجب ألا يخطئوا، فقناعتي الشخصية أن الشخص الذي أستطيع العيش معه بأمان هو الشخص الذي أستطيع أن أستوعب أخطاءه وسلبياته، فكلنا يستطيع العيش مع الإيجابيات والنواحي المشرقة لكل شخص، إنما استيعاب الآخرين هو الأهم.
ونستطيع أن نلخص أهم النقاط المتعلقة بهذا الموضوع كما يلي:
0 أنا إنسان لي أخطائي.
0 كذلك الآخرون يخطئون مثلي، وقد أكون أكثر بسلبياتي منهم.
0 قد لا نرى سلبياتنا في كثير من الأحيان لأنها تكون غير مقصودة أو عفوية أو عشوائية، وكذلك بالنسبة للآخرين، فهم أيضاً في بعض الأحيان لا يستطيعون أن يروا سلبياتهم ويستوضحونها.
0 صديقي المخلص هو من يوضح لي أخطائي كي أكون أكثر حذراً في سلوكي، لذا من المهم أن نكون حذرين حين نصارح الآخرين بأخطائهم، فليس من الحكمة أن نجعل انتقادنا يبدو سيئاً، ومن الجميل ألا أجرح مشاعر الآخرين بطريقة فظة، رغم أن الانتقاد عادة ما يكون قاسياً، لكن إذا اقترن الانتقاد بمديح قبله وتم تمهيد الأمر جيداً له، فسيكون الانتقاد مقبولاً وفاعلاً.
0 عندما أنتقد أحداً يكون هدفي أن أعدل من سلوكه، فما دام الهدف تعديل سلوكه فلماذا نسعى أحياناً للتجريح؟، رغم أن التجريح قد يكون أحد أسباب تعديل السلوك، لكنه المحاولة اليائسة الأخيرة لكشف أخطاء الآخرين، وقد لا يأتي بمردود لأن مستقبل الانتقاد سيأخذ منحىً دفاعياً لاعتقاده بأنه تتم مهاجمته.
0 التمهيد في الكلام فن ومهارة مهمة، فالمباشرة تكون في أحيان كثيرة فظة وغير لائقة وجارحة، فإن التمهيد بالكلام من الممكن أن يمتص الصدمة ويخفف من حدة الدفاعية للآخرين.
0 من الجميل قبل الانتقاد أن يشعر من سوف ننتقده أننا حريصون عليه ونريد مصلحته، لكن ليس بأسلوب سلطوي فمن المفضل أن يكون كأسلوب الشراكة والمصلحة المشتركة.
0 وكم من المهم أن يفهم الآخر أننا ننتقد السلوك وليس الشخص فنحن فعلاً نحب هذا الشخص وإلا ما كنا معنيين بنصيحته وإرشاده.
0 ليس بالضرورة أن نكون مباشرين بانتقاداتنا، فقد نذكر الانتقاد بطريقة غير مباشرة، كأننا نروي قصة لشخص آخر قام بفعل مشابه وكيف كان أثر ذلك، أو بذكر حكمة، أو التلميح لأثر السلوك، وهذا أسلوب ناجح للانتقاد وبعيد عن التجريح.
0 نرى أن الأب يضرب ابنه اعتقاداً منه أنه يحسن تربيته وأنه يريد مصلحته، ونحن لا نشكك في نوايا الأب لكننا ننظر للتناقض في أننا نعبر عن خوفنا وحرصنا وحبنا لأولادنا وأحياناً للآخرين بطريقة قاسية عنيفة لا نترك لهم مجالاً عندها أن يفكروا ويتعلموا ويأخذوا العبرة! إنما كل ما حدث أنه سيتم تفسير هذا الفعل بالاعتداء والإهانة، رغم أن العقاب القاسي هو الحل الأخير للمشاكل المستفحلة، لذا فمن المهم أن تناسب الوسيلة وشدتها الموقف الحاصل، فنحن متفقون أننا نريد مصلحة الآخرين.
لكن من المهم في توقعاتنا من الآخرين أن نكون واقعيين جداّ في طبيعة توقعاتنا، وأن نكون عقلانيين، فمن أهم ما يجب أخذه بعين الاعتبار لنحدد توقعاتنا من الآخرين، العمر فالمرحلة العمرية مهمة جداً لنعرف هل أن توقعاتنا معقولة أم مبالغ فيها، الخلفية الاجتماعية فبعض الخلفيات الاجتماعية تبيح بعض الأشياء التي قد نجد أنها غير مقبولة أو غريبة عنا، وهذا مهم أيضاً في الواقع لنعرف أن الآخرين يختلفون بخلفياتهم الاجتماعية، الضغوط التي قد يواجهها الآخرون وهذه الضغوط متعددة فقد تكون ضغوطاً اجتماعية، أو مادية، أو عائلية، أو أسرية أو عاطفية، وغيرها من الضغوط التي قد تؤثر في سلوك الأشخاص بشكل كبير، لذا من المهم في كثير من الأحيان محاولة معرفة الضغوط الواقعة على الآخرين، خاصة إذا كنا معنين بعلاقتنا معهم، إضافة إلى أنه من المهم جداً أن نضع في عين الاعتبار أننا عندما نتجادل في قضية ما فليس هذا معناه أننا سنختلف أو أننا ننتقد إنما من الممكن أن ننظر للأمر أنه عبارة عن تفاهم أكبر، فإن التفاصيل الصغيرة هي التي تجعلنا نختلف في كثير من الأمور، والتفاصيل عينها هي التي تجعلنا نزيد من تفاهمنا مع بعضنا وتعزز علاقاتنا.
أذكر هنا قصة أحد أصدقائي الذي كاد أن يفسخ خطوبته لكونه يتشاجر ويختلف كثيراً مع خطيبته، لكنه عندما نظر للأمور كما أوردت سابقاً خاصة وأنه أصبح ينظر للمجادلات على أنها وسيلة للتفاهم والتقارب لا الاختلاف، جعل ذلك أموره أكثر استقراراً، وجعله أكثر سعادة، وخفف ضغوط المشاكل الواقعة عليه بشكل كبير. ومن المهم أن نعمم هذه النظرة في كل علاقاتنا مع الآباء والأمهات والأخوة والأخوات والأصدقاء وكل الآخرين الذين يعنون لنا شيئاً ما في حياتنا.
وقد يكون أحد انتقاداتنا لأحد الأصدقاء رغم كل إيجابياته أنه لا يتواصل معنا في بعض المواضيع، أو أنه يعطل بعض النشاطات، وأذكر أحد أصدقائي الذي كان يكره النشاطات الرياضية، وأن كلما أردنا أن نقوم بترتيب أي نشاط رياضي عطل ذلك ومنعنا أو عقد الموضوع والترتيبات، فهو لا يهتم بالنشاطات الرياضية، وأتوقع أننا لو كنا أكثر ذكاءً بالتعامل معه في هذه الناحية ولم نشركه في التخطيط لأي نشاط رياضي لتجنبنا الكثير من المشاحنات حول الموضوع، ولقمنا بنشاطاتنا دون تعقيد ودون أي مشاكل. لذا من المهم أن ندرك اهتمامات الآخرين وأن نكون على معرفة بما لا يحبون أن يقوموا به، وأنا لا أدعو هنا لعمل استبيان، لكن الأمور أبسط من ذلك، فقد دعوت صديقاً لي في يوم من الأيام للمشي في المدرج الروماني في عمان، وأنا عادة لا أدعو أصدقائي المقربين الآخرين، وعندما فاجأني بالموافقة سررت وقضينا أمسية رائعة على المدرج في الدرجات العليا، مشينا وتبادلنا الأحاديث الشيقة، فأصبح هذا صديقي المفضل للقيام بهذه الرحلة في فترات متباعدة فهذا شيء مشترك بيننا، ويمتع كلينا، لكن صديقي هذا لا يحب الرياضة لذا أصبحت أتجنب دعوته للعب كرة القدم لكونه لن يحب ذلك وأن هذه اللعبة ليست من مجالات الرياضيات التي تمتعه، بل على العكس فإنه ينتقدها، والرسالة أو الحكمة المرجوة فيما أريد قوله أننا حين نتفق على شيء مشترك مع الآخرين فهذا يجعلنا أكثر قرباً وانسجاماً، أما إذا اشترك فردان بنشاط أو بالتحدث بموضوع ليس من اهتمامات أحد الطرفين فقد يعكر هذا الموضوع الجو، وقد يكون عدم اهتمام أحدهم مدعاة لاستياء الآخر واعتقاده بأن ذلك الشخص غير متفهم، أو أنه لا يحترم آراء الآخرين، أو أنه لا يترك فرصة للآخرين للتحدث بالأمور التي تهمهم أو على راحتهم، فلو قلنا أن أحمد مهتم بمكانيك السيارات بشكل كبير وهذا مجال عمله واهتمامه وأحاديثه.
وحسين مهتم بأدب اللغة الانجليزية، والشعر والقصة القصيرة، وكلاهما أصدقاء، لكن أحمد غير مهتم بالأدب بشكل قاطع بل يكرهه، وحسين لا يحب مواضيع الميكانيكا أو التحدث عن السيارات بل يجد ذلك مضيعة للوقت، إذن ما رأيك بهذا التعقيد بطبيعة علاقة الصديقين، خاصة وأن كل منهما يحب مجاله ويقضي الساعات بالحديث عما يخص مجاله، هل ترى العقدة في هذا الموضوع؟
تصور أن حسين وأحمد التقيا بإبراهيم وهو أحد معارفهما و جلسا في مكان ما، وكان إبراهيم من محبي مواضيع الأدب أو الاهتمامات الأدبية، وابتدأ الحديث حول هذا الموضوع مع حسين، كيف تتخيل أن موقف أحمد سيكون؟ إذن كيف ترى أن الوضع الحالي يمكن تغييره؟ أو التعامل معه بطريقة أكثر ذكاءً؟ لكن ألا تعتقد أن أحمد وحسين يتفقان حول بعض المواضيع المشتركة وإلا لما كانا صديقين! بالواقع فالعلاقات الاجتماعية مبنية على التكامل أو التوافق مما يسبب انسجاماً، وبلا أي انسجام لا يوجد أي علاقة اجتماعية، ونرى أن أحمد قد تصرف ببراعة وتحدث عن آخر مباراة كرة قدم في الدوري الانجليزي حيث أن حسين يهتم بنفس الموضوع، وهكذا كسر أحمد حاجز صمته وقام بتغيير الموضوع بحيث يصبح مشاركاً وفاعلاً دون أن يشعر بالملل، لكن إبراهيم لم يبد عليه التفاعل لذا كان من الذكاء عند حسين أن يخبر إبراهيم ماذا يفعل هو وأحمد حتى لا تفوتهما فرصة أن يحضرا مباراة كرة قدم، وعن أعمالهما وذكرياتهما وقفشاتهما في هذا الموضوع، وخاصة عند أول تعارفهما، وهذا جعل من إبراهيم مستمع نشط حيث أن الموضوع تحول إلى ذكريات قديمة وقفشات مضحكة، وهكذا كان أحمد وحسين مشاركين فاعلين ومستمتعين بالذكريات والحديث عن الماضي، وجعل من إبراهيم مستمع نشط مستمتع ويضحك من بعض النوادر والأوضاع الغريبة والفكاهية التي مر بها أحمد وحسين، وعليه نقيس علاقة حسين وأحمد رغم أننا عرفنا الموضوع الأساسي الذي يشكل الاهتمام الأولي لكليهما، ألا أنهما يشتركان بموضوعات فرعية مشتركة تجعل بينهما انسجاماً عميقاً.
فالعلاقة الاجتماعية عبارة عن طرفين، لا يوجد ما نسميه علاقة اجتماعية إذا كان هناك طرف واحد فقط، وكلما زادت الاهتمامات المشتركة زاد الانسجام بين الطرفين وبالتالي زادت قوة العلاقة وعمقها، فلو كان أحدنا ينتظر في غرفة انتظار لعيادة الأسنان على سبيل المثال، وسمعنا شخصين يتحدثا عن برنامج (طاش ما طاش) وكنا من متابعي البرنامج فسيشدنا هذا الموضوع ويجعلنا نصغي باهتمام، بل قد نشاركهما بالحديث، وهذا بالنسبة لبرنامج تلفزيوني، فكيف لو كان الحديث عن موضوع أكثر أهمية كقضية عامة، أو وضع سياسي أو اقتصادي، أو عن موضوع أدبي، وكان ذلك من مجالات اهتمامنا فسيجعلنا ذلك نتابع أو نشارك باهتمام، ويكون هذا الدرجة الأولى للانسجام، وكلما تابعنا الحديث واكتشفنا اهتمامات مشتركة أكثر، وتشابهت وجهات نظرنا مع الآخر أكثر زاد إحساسنا وشعورنا بالانسجام والألفة والقرب من الشخص.
إذن فمن أهم المهارات الاجتماعية أن نستطيع أن نجعل الآخرين يهتمون بما نتحدث به أو أن نكون نحن من المهتمين حول ما يتحدثوا به، وعادة فالمواضيع العامة تحوز اهتمام الجميع وهي من أفضل المواضيع لخلق الانسجام، وتحفيز العلاقات الإنسانية، وأهم المواضيع العامة مواضيع الساعة كحدث أو كارثة أو فضيحة ما أو خبر سار أو اقتراب موعد حدث مهم. وهنا فإني أنصح المقبلين على الزواج والمتزوجين أن يحاولوا فهم اهتماماتهم المشتركة وتدعيمها، فكما قلنا قد يكون مسلسلاً تلفزيونياً كأبسط مثال على حالة من خلق اهتمام مشترك وتفاعل متبادل يخلق انسجاماً قوياً.
لذا من المهم أن أكون على دراية بأهم اهتمامات المقربين مني، فقد أخرج بالرحلات الترفيهية مع أنس وسعيد، لكني أتجنب مروان فهذا ليس مجال اهتمامه، لكن إذا رغبت في لعب الرياضة فإن مروان من الأسماء المطروحة للحضور لأن هذا هو أهم مجالات اهتمامه، وهو خير رفيق للرياضة، لكن من الممكن أن أتجنب الأحاديث الوجدانية التي تتعلق بالمشاعر وغير ذلك مع مروان فهو لا يهتم بهذه الناحية كثيراً وتعامله معها قد يفهم بطريقة خاطئة رغم أنه طيب القلب بشكل كبير، ولا يقصد الإساءة بأي شكل من الأشكال، لذا أتجنبه بهذه الأحاديث، فمروان صديق طيب ومخلص أريد أن أحافظ على علاقتي به بشكل طيب، ولا أنسى أن مروان خدوم جداً وكأنه في تصرفاته يقول أنا غير معني بفهم مشاعر وآلام الآخرين لكن إذا كنت بضيق فاطلب أي خدمة وأنا مستعد لها بأي ثمن.
واقرأ أيضًا:
المحاكمة / التدرج / ما هو الغضب؟!