كنت مع صديقي نتجول في سيارته عندما توقفنا أمام بيت جميل جداً مستقل وله حديقة رائعة، قال صديقي: "أتمنى أن يكون لي مثل هذا البيت، من المؤكد أن صاحب هذا البيت سعيد جداً، فرغم أن البيت ليس فارهاً بطريقة مبالغ بها إلا أنه مرتب وجميل بشكل رائع". وبعد فترة من الزمن شاءت الأقدار أن نلتقي أنا وصديقي بأحد أبناء صاحب البيت الذي أعجبنا قبل فترة، وبعد التعارف وتجاذب أطراف الحديث، أبدى صاحبي إعجابه بالبيت الخاص بصاحبنا الجديد، والذي أخبرنا بدوره أن هذا البيت قد كلفهم مبالغ كبيرة من المال وما زالوا يسددون بعض الأقساط الشهرية للبنك، ثم حدثنا برحلة من العذاب واجهها أبوه في عدة بلدان، مغترباً ومتنقلاً من عمل لآخر، إضافة لما عاناه وكيف أنه ذاق الأمرّين، وكم حرم نفسه من أشياء كثيرة طوال عشرين عام حتى وفّر لأولاده بيت ومحل صغير، لم يعد يفي كل متطلباتهم فعلياً في الوقت الحالي، انتهت أمسيتنا وعدنا نحن وصديقي من نفس الطريق نتبادل الحديث حول ما سمعناه، فقال صديقي لي أنه لم يعد يرغب في أن يكون له نفس البيت إذا كان سيدفع الثمن الغالي من غربة وجهد وحرمان، وأنه سيكتفي بشيء أقل من ذلك مقابل أن يكون في وضع أكثر راحة وأقل إزعاجاً، وهذا يقودنا إلى التالي:
0 كثير من الأمور التي تعجبنا، نكون نحن متفرجين فقط من الخارج لكن قد نستغرب كثيراً إذا عرفنا بعض التفاصيل الخاصة، مثل القصة السابقة أن صاحب البيت ما زال يسدد قرض البنك رغم أنه بنى بيتاً جميلاً.
0 كل شيء له ثمن فحتى تحصل على شيء معين يجب أن تجتهد بشكل كافٍ لتحصل عليه.
0 الثمن للأشياء أحياناً ليس مادياً، إنما قد يكون اغتراب، وحرمان، وجهد مضنٍ.
0 من المهم أن نكون صبورين جداً، فمعظم الأشياء التي نريد تحقيقها إنما هي عبارة عن تراكمات وتطور يحتاج لوقت زمني قد يكون عبارة عن سنوات وأحياناً عقود.
0 كل شيء عبارة عن تطور وتراكم، فنمو الإنسان عبارة عن تطور وتراكم خبرات وتدريب، مثلاً من حصل الآن على درجة الدكتوراة وننظر إليه على أنه دكتور متخصص فقط، إنما هو إنسان كافح للحصول على الثانوية العامة، ثم للحصول على درجة البكالوريوس، ثم حصل على الدكتوراة، نضيف إلى ذلك الكثير من المشاكل والإحباطات والإخفاقات التي مرّ بها، إضافة إلى التنقل والأسفار، اعتراض الأهل أو عدم التشجيع أحياناً، إضافة إلى ضغوط الظروف المادية لبعض الناس الذين كافحوا للحصول على شهادة الدراسات العليا، والمحصلة، الصبر والتدريج يصنع الآمال.
0 الواقعية العملية تقول أن الأشياء يجب أن تأتي بالتدريج، فلم نر أحداً يفتتح سلسلة مطاعم على سبيل المثال قبل أن يكون قد ابتدأ بفرع واحد، ثم بعد أن تأكد من قدرته على فتح فرع آخر أقدم على ذلك، وقد يكون استغرق سنوات لذلك، وبعد كل فترة طويلة وبعد التأكد من نجاح كل فرع يتفرع ليفتح فرع آخر.
0 لكي تصعد لا بد لك من الاستراحة في كثير من المحطات، لذا من المهم أن نلتقط أنفاسنا بعد كل مرحلة من التطور وذلك لتقييم الأمور وتعزيز القدرة على المضي للأمام بشكل أكثر ثباتاً وتوازناً.
0 في فلم (همام في أمستردام) نرى مشوار رحلة محمد هنيدي في فلم يستغرق الساعة والنصف تقريباً، لكن لو حسبنا الفترة الزمنية التي تحدث عنها الفلم سنجد أنها استغرقت قرابة العشرين عاماً، وهنا أوجه حديثي للشباب الذين أعجبوا بما حققه همام أو محمد هنيدي. إن ذلك كان خلال فترة طويلة، وتخلل هذه الفترة الكثير من العقبات والإخفاقات التي صورها الفلم.
0 هل النجاح هو فقط في الأمور المادية، وهذا أيضاً صورة فلم همام في أمستردام، حيث كان تركيزنا على أن النجاح كان مادياً، ونسينا أن ننظر للأمر من وجهة نظر مختلفة، فرغم النجاح المادي، فقد حرم همام من أهله، ومن بلده، كما تعرض للإهانة والصعوبات الكثيرة في الغربة، إضافة إلى أن الفلم يصوره أنه أصبح صاحب مطعم ناجح، وصديقه يعمل بأعمال غير مشروعة وقام بدعمه بهذا المال، فهل يكون النجاح على حساب الأخلاق والالتزام الديني؟!.
0 التدرج لا يكون في تحقيق الأهداف المادية فقط، بل قد يكون بتحقيق درجة علمية كما قلنا، أو بالالتزام الديني الذي يحتاج للجهد والتطور التدريجي، فكما يقال قليل دائم خير من كثير منقطع، وأيضاً فالتدرج مهم في العلاقات الشخصية، فكلما زادت مدة التعارف وزادت درجة الانسجام زادت المحبة والمودة، وهذا لا يكون خلال يوم وليلة لكنه يحتاج لأيام.
ومن النواحي العملية للاستفادة من موضوع التدرج، أذكر أحد الأمهات التي انتقدت ابنها والكثير من سلوكياته، وبعد التحدث حول أهمية التدرج والواقعية فيما نريد تحقيقه، تم وضع برنامج تدريجي لأهم سلوكين مزعجين، إضافة إلى أن هذا البرنامج كان يشمل تنمية سلوكين مرغوبين، وقد كانت مدة البرنامج ثلاثة أشهر، وبالمتابعة والتدرج من خلال تعديل السلوكيات والتركيز على السلوكيات المحددة، استطعنا تحقيق الهدف بنجاح بعد ثلاثة أشهر، وذلك بتعديل السلوك من خلال إطفاء سلوكين مزعجين، وتنمية سلوكين إيجابيين، فلو أننا في كثير من الأحيان نحدد ما نريد تعديله في الآخرين، أو حتى في أنفسنا، ووضعنا برنامجاً تدريجياً واقعياً نستطيع تحقيقه من خلال التحديد الشديد والتركيز على سلوك واحد لاستطعنا النجاح والتطور، وبالتالي تعديل الكثير من السلوكيات بعد فترة من الزمن.
وأذكر في فترات بعيدة كنت أعاني من كوني عصبي بطريقة توترني وتزعجني، فقررت أن أقوم بتعديل هذا السلوك الذي استطعت أن أتغلب على معظم جوانبه الآن رغم أن الأمر لا يخلو من بعض ثورات الغضب لكن في فترات متباعدة بشكل كبير، وبشكل طبيعي لا يزيد عن الحد العادي، ومع ذلك ما زلت أحاول أن أسيطر أكثر من خلال تحديد أهم الأمور التي ما زالت تثير عصبيتي والمحاولة للسيطرة عليها بشكل أكبر، وهذا الجهد قد استغرق مني قرابة الأربع سنوات، لكن كما نعرف فإن الأمور التي تكون متدرجة تكون أكثر ثباتاً، إضافة لكونها أكثر تأثيراً، رغم طول المدة الزمنية.
إذن فمن أهم الفوائد التي نستطيع الخروج بها مما سقناه:
0 يجب أن نكون واقعيين فيما نريده وما نريد الوصول إليه.
0 لتغيير السلوك يجب أن أكون محدداً بشكل مركز جداً لطبيعة السلوك الذي أريد أن أقوم بتعديله، سواء عندي أو لدى الآخرين.
0 يجب أن نكون واقعيين في كون أن التوقيت الزمني مهم وأن التغيير يأخذ وقتاً عادةً.
0 يجب أن نكون واقعيين في الحكم على سلوكياتنا، فمعنى أن فلاناً عصبي، معنى ذلك أنه يغضب لأتفه الأسباب وفي أي وقت كما أنه غير قادر على التفاهم مع الآخرين، لكن إذا انتابت أحدنا سورة غضب لسبب يستدعي ذلك فليس بالضرورة أننا عصبيون، فالأمور في سياقها تكون مناسبة، والوضع الطبيعي أننا نحزن إذا كان هنالك سبب يدعو للحزن، ونغضب إذا ما استثارنا أمر يدعو للاستثارة، ونعاني من انخفاض مزاجنا إذا أخفقنا أو واجهنا ضغطاً شديداً. لكننا أيضاً نفرح إذا ما كان هنالك أمر مفرح، ونتشجع إذا نجحنا في تحقيق هدف، فليس هنالك سلوك إنساني مثالي، إنما هنالك واقع إنساني، نسلك من خلاله ونصيب ونخطئ، ونخفق وننجح، ونثور ونغضب، ونفرح ونشعر بالسعادة، كل هذه المشاعر والسلوكيات الإنسانية الطبيعية التي تميز إنسانيتنا، وهي من حقنا ما دامت في سياقها الطبيعي.
واقرأ أيضًا:
المحاكمة / ما هو الغضب؟!