لم يعد يكفيني أن أتأمل الجاري دون أن أبحث عن كيف تشكل هذا العقل الجمعي لهؤلاء الشباب عبر تلك السنين، عثرت على مجموعة لي من القصص التي أعتبرها "قصصا سياسية"، كنت قد كتبتها في الدستور قي زاويتي "تعتعة"، وقبل ذلك في الأهرام بعنوان "مقال في قصة"، وتصورت –مرة أخرى– أن مثل هذه الكتابات، من غيري ومنّي، قد ساهمت في تشكيل هذا الوعي الغاضب الذي فجّر هذا الإبداع الجمعي، حضرني تساؤل يقول: ماذا لو التقيت بشباب هذه القصص، أو ذويهم الآن؟
الجزء الأول: نص القصة القديمة
بتاريخ (21 – 11 – 2006) "العروسة والبورصة"
(1)
قالت البنت وقد وضعت عروستها الضخمة بجوارها: "لكنني أحب ربنا أكثر"، قال أبوها: وأنا أحبه كثيرا جداً، فمن أدراكِ أنك تحبينه أكثر، قالت، لأنه يحبني أكثر، قال: ومن أدراك أنه يحبك أكثر، قالت: لأنه لا يخيفني أبدا، صمت أبوها، شعر أنه تعرّى فجأة، فغمره خوف محيط، خوف من كل شيء وخاصة من الموت جوعا هو وأطفاله. لملم نفسه بسرعة، وقال لها في غيظ: "لكن لابد أن نخافه حتى لا نعصاه، قالت البنت: أنا أخاف أن أعصاه، لكنني لا أخافه هكذا، قال لنفسه: هكذا ماذا؟ "كيف عرَفـَتْ؟".
(2)
حين قالوا له إن الفائدة تتناقص باستمرار، وأن التضخم يزيد باستمرار، لم يفهم الجملة الثانية، وسأل الناصح، فما رأيك؟ قال له: عليك بالبورصة. قال: يعني ماذا؟ قال يعني تشتري أسهماً في شركة، فتصبح شريكا لواحد ناصح يفهم في هذه الأشياء، هو ومن معه، يصعدون تصعد معهم، يهبطون تهبط معهم، قال في انزعاج: يهـْ .. ماذا، قال: "يهبطون"، قال ومال أنا؟ لماذا أهبط معهم؟ قال الناصح: لأنك تصعد معهم، أنت شريك، هذا هو الحلال بعينه، قال للناصح: إنه شقي في الغربة ثلاثا وعشرين عاماً بما يوازي ثلاثة قرون ونصف مما تعدون، كلها صبر ومذلة، وأنه لم يـُـفِـقْ بعد من الحلال الريّاني. قال الناصح: "آن الأوان أن تجعل رأسك برأس "أجعص جعيص". قال: أهكذا؟ قال الناصح: أنت حر. قال الرجل "حرّ" يعني ماذا؟ قال الناصح: يعني تتعامل في سوق حرة، عرض وطلب، وأنت وشطارتك، سأل: يعني ماذا؟
(3)
سألتها أمها عن عروستها التي كانت– برغم سنها- لا تنام إلا وهي في حضنها، فتصنعت أنها لم تسمع، فأعادت الأم السؤال، فقالت البنت: "ضاعت"، سألت الأم وهي تغمز بعينها: هل استعارتها صاحبتك؟، ردت البنت مرتبكة: قلت لك أنها ضاعت، قالت الأم: كيف ضاعت يا حبيبتي وحجمها يكاد يفوق حجمك؟ قالت البنت وهي تنظر إلى تحت السرير: "لا أعرف". التقطتْ أمها اتجاه النظر، وحاولت ألا تلاحظ البنت أنها رصدت نظرتها.
(4)
كان قد قرر ألا يعيش نفس الحسرة مهما فرضها قَدَر البورصة الذي لم يفهمه أبدا، خسر مدخراته بلا تفسير!! الأولاد لهم ربهم، لم يعد يستطيع، النظر إلى النيل أمام سميراميس وقال له: أنا قادم، لكنه بدلا من أن يسير إليه تذكر -فجأة- علاقته المحدودة بها، فانتفض وكأنه صحا من نوم عميق، واستدار رأيه، فمساره، 180 درجة، وكر عائدا في اتجاه ميدان التحرير وهو يلوح بيده للنيل ساخرا: "آسف، انتظرني بعد الفاصل".
مع أنه لم يشربها في حياته إلا مرتين مختلفتين (هناك حيث هي ممنوعة 100%): الأولى حين ضغطوا عليه للمشاركة في تذوق سائل خمّروه في المنزل تحت قطر الندى، ارتشف منه رشفة نزلت في زوره كالنار، ولم يكمل، والثانية حين ضغطوا عليه مرة أخرى بنوع آخر طيب النكهة، فاستطعمه حتى لم يعرف متى يتوقف، لكن المصيبة أن النار لم تشتعل في زوره، بل في "كُلِّه": ليلتها: ضحكَ، ولعبَ، وبكىَ، وغنّى، ونَسِىَ، وفـكـَّر، ورقص، ونامْ، لكنه في الصباح لم يستطع أن يرفع رأسه من الصداع. تاب وأناب، وأقسم ألا يقربها حتى يموت. قال لنفسه وهو متجه من ميدان التحرير: للضرورة أحكام، هي أحسن من أحضان النيل، هذا أوانها وليكن ما يكون، استراح وكأنه أتم المهمة قبل أن يبدأها، راح يدندن بيقين: "الشيء هو الحل": إلى شارع سليمان باشا فميدان التوفيقية، ولم يعرف كيف وجد نفسه في سريره صباحا.
(5)
انزعجت البنت حين وجدت لعبتها فوق السرير لا تحته، فرحت وخافت وترددت فلحقتها أمها تطبّها قائلة: أنا أحبها مثلما تحبينها يا حبيبتي، فلماذا أخفيتِها. قالت لها: خفت أن أعبدها من دون "الله" فزعت أمها حتى كادت تقفز؟ من قال لك هذا الكلام يا بنت؟ قالت: عمي "بيومي"، أخافني حتى حفظت ما قاله، قالت الأم: متى؟ قالت: حين زارنا، ولم يجد أبي، وضبطني أداعبها، وأكـلّمها، صمتت الأم ذاهلة ثم عادت تقول: فرُحتِ أنت ترددين ما قاله كالببغاء، قالت: عمي أخافني، فخفت خوفا من الذي يخافه أبي، أنا ما زلت أحب ربنا أكثر يا أمي، فلماذا أخاف خوفهما؟.
صمتتا وطال الصمت حتى رفعت البنت رأسها وقالت: لماذا سيسافر أبي ويتركنا لعمي بيومي يخيفنا هكذا، قالت أمها: أبوك يسافر لأنه يخاف أن نجوع يا حبيبتي.
(6)
راحت الأم تحكي لزوجها ما كان وهي تعد له حقيبة السفر. قال لها: لا تنزعجي، عام واحد فقط، قالت: نفس الكلمات أسمعها للمرة الرابعة والعشرين،. قال لها: أنا شبعت ذلا، قالت: وهذا أيضا سمعته كل مرة.
الجزء الثاني: ماذا حدث، ويحدث، "الآن" بعد 25 يناير؟
(كتب بتاريخ: 17/6/2011)
قالت البنت لأخيها: ثم ماذا؟
قال أخوها: سوف نكمل
قالت: نكمل ماذا؟
قال: الثورة، أعني نكملها لتكون ثورة
قالت: أخشى ألا نكون قدْرَ ما بدأناه، أصبحنا جموعا متداخلة بلا دولة
قال: أي شيء هو أفضل مما كنا فيه، هل تريدين أن يرجع الرئيس ليعود الأمن إياه، ونتفرغ نحن للتسالي
قالت: رئيس ماذا، وأمن ماذا؟ هل جننت؟
قال: إذن ماذا؟
قالت: أريد ألا يمس أحدهم عروستي، لا البلطجية، ولا الأوصياء الذين يقفون بيني وبين ربنا
قال: ألم يئن الأوان أن تكبري، ألا تذكرين إصرارك على اصطحابها إلى بيتك حين تتزوجين؟
قالت: أخاف أن يرجموها
قال: حذاري، هذا كلام من يشوهونهم باعتبارهم "الفزاعة"، هذه لعبة الرئيس ورجاله، وقد فشلت
قالت: أنا مالي بهم، أو به، أنا أخشى عليها من الرجم
قال: الله يخرب بيتك، رجم ماذا؟ لا هي محصنة زانية، ولا هم يرجمون، كفى استعباطا، لملمي نفسك ودعينا نكمل
قالت: نكمل ماذا؟ جاءتكَ نيلة، أنت لا تعرف ما ينتظرنا
قال: بل أعرف
قالت: تعرف ماذا؟
قال: لا أعرف
قالت: هل رأيت خيبتك البليغة؟
قال: ليست أكبر من خيبتك، ولكن بالله عليك: هل هذا وقت تبادل السباب
قالت: ...إذن هو وقت ماذا؟
قال: وقت العمل
قالت: عليك نور!! لقد وجدت عملا وسوف أشغله عن قريب
قال: ألف مبروك، اسم الله عليك، ومن هذا المحظوظ الذي سوف تتفجر قدراتك في رحابه؟
قالت: صديقك الجاسوس "جرابيل"، قبلت أن أتعاون معه لحساب العدو، لكنني سوف أخدعه وأعمل لحساب بلدي
قال: اسم الله اسم الله، وما اسم المسلسل إن شاء الله؟
قالت: أليس هذا أفضل مما تفعلون
قال: نحن لا نفعل شيئا
قالت: هأنت ذا قلتَـها
قال: كأنك تشاركين في هزيمتنا من داخلنا، ماذا يتبقى إذن؟
قالت: عليك أن تختار ما يتبقى: إما "العدالة والحرية"، أو "الديمقراطية المهَلَّبية"
قال: وأنتِ، يتبقى لكِي "الخيبة القوية"
قالت له: أنا أكره أمريكا وأشم رائحتها وراء الأحداث
قال: وأنا أكره إسرائيل ويصيبني الغثيان من مجرد سيرتها
قالت: اتفقنا
قال: على ماذا؟
قالت: على أن نبدأ الإعداد للثورة القادمة
قال: ثورة على الثورة؟!!
قالت: بل هي هي، حين نحميها من القراصنة، ومنـَّا
قال: القراصنة، نعم، ولكن لماذا منـَّا؟
قالت: قلت لك، الشركاء في الجريمة كثيرون، والاتفاقات سرية
قال: ولكننا يقظون لهم تمام التمام
قالت: لا يا شيخ؟!!!!
قال: والمصحف
قالت: خل المصحف لأصحابه
قال: نحن أصحابه، كلنا أصحابه، ألم تتعلمي من خيبة هذه الطريقة "الفزاعية"؟
قالت: أنا أولى صاحباته، أنا أتعلم أحسن منك، على فكرة سمعت أن والدنا أنهوا عقده وهو الآن يرتب أموره للعودة النهائية
قال: عودة؟ يا نهارا أسوادا ونأكل من أين؟
قالت: من فتات موائد الأمريكان
قال: ملعون أبوهم
قالت: مليون مرة، ولكن هل هذا يغني عن الاستعداد لهم، والإعداد للثورة القادمة؟
قال: لا أعرف
قالت: أنا أعرف!!!
26-6-2011
ويتبع >>>>: تشكيل وعى الشباب: والحيرة الخلاقة (2 من 2)
اقرأ أيضا:
البنتُ..، والعـلَمْ / أنواع العقول والديمقراطية المضروبة! / خذ من الديمقراطية ما شئت لما شئت!!