كثير مما أكتب فيه وعنه هو واقع عشته، أو ألم عانيته، أو مرض أعالج أو أتعالج منه، أو خبرة مررت بها وأسعى جاهدا إلى تفصيل شرح الدروب إليها، والمصائد بداخلها، وأصف أمراضا وأعراضا لنضع أيدينا على مواضيع الداء ونبحث معا عن الدواء، ولكن هذا كله يصطدم بصخرة التكوين الفكري السائد، والعقل العام الشائع، والنظام الذهني المتهرئ حصاد الإفساد والتراخي والتخاريف التي نتعرض لها من صرخة الميلاد إلى غمضة الممات، من نثر السكريات إلى معاناة السكرات وكم أعجب وأغتاظ ـ ثم أهدأ ـ ممن يأتي إلى طبيب ويسأله تقريرا بالحالة ثم حين يعطيه التقرير ينظر فيه ثم يقول:
ما هذا يا طبيب؟! لماذا تقتصر على ذكر الأعراض والخلل؟! لماذا تذكر السلبيات والمشكلات؟! لماذا أنت "متشائم"؟!
ألا توجد إيجابيات فتذكرها وتشيد بها فتتغير الألوان في عيوننا من الأسود القاتم إلى الرمادي الفاتح؟!!
لماذا كل هذا النكد والواقع جميل، وفيه نقاط كثيرة مضيئة؟!! أليس على لسانك غير المرض والأمراض؟ ومنشأ هذه الاعتراضات كما يبدو يتضمن جهلا بوظيفة الطبيب، وطبيعة التقارير الطبية، ويتضمن جهد السعي لأي أمل أو تفاؤل لتهدئة النفوس، وربما لاستمرار القعود، وعدم الحركة للإصلاح الفردي البسيط، أو الجماعي الأوسع!!
وفيها استسلام لتأثير آفة كبرى من آفات التفكير والتعبير عندنا، وهي وجود كليشهات، أي قوالب نمطية ثابتة ومكررة نرى من خلالها الواقع ونفهمه ونصل غالبا ودائما إلى صورة مشوهة جدا عن الأشياء بسبب هذه القوالب والكليشهات البلهاء البدائية السخيفة التي تحكم تفكيرنا، وربما لا ينبهنا إليها أحد في تعليم أو إعلام أو وعظ!
مثلا كليشية التفاؤل والتشاؤم هو عبارة عن ثنائية ساذجة، إذا مررنا اعتبارها وقررنا استخدامها في الحديث عن نتيجة مباراة كروية أو مسألة يلعب فيها الحظ واعتباراته القدرية الدور الأكبر فلا يجوز بحال من الأحوال أن نضع في هذا المقياس الأبله الخفيف، مقياس التفاؤل والتشاؤم، مسائل مثل مراجعة مسيرة أمة، أو استشراف نتائج متوقعة على خلفية نتائج واقعة!! ونحن نفرط في استخدامها في كل حياتنا.
وإذا كان أمامنا مغمض العينين يسير في حقل ألغام دون أن يدري ما الألغام، ولا كيف يجتنبها؟!
وهو متروك على جهله بذاته المغمضة المتخبطة، وبالمساحات التي يتحرك فيها، وطبيعتها، وبضرر الألغام وتدميرها، وبصعوبة العلاج والتعويض وراء ذلك، هل يمكن هنا ـمن حيث المبدأ والمنهج وأبسط بديهيات أي عقل أو أي منطق ـأن نبحث في رسالة تحذير وتنبيه وإعلام وتذكير عاجلة نكتبها لهذا السائر المسكين، هل نتوقع أو يمكن أن نتوازن في هكذا رسالة لنجمع بين التحذير والعزل، بين وصف المخاطر مثلا ومدح المناخ الصحو والشمس المشرقة وصوت العصافير التي تزقزق فوق أغصان فروع أشجار حقل الألغام؟!!
وبأي عقل أو منطق أو مقياس يجد أحدنا الشجاعة لينكر على النذير لهجة التحذير، وليقول له في براءة، ولا أعتبرها هنا براءة، لماذا لا تذكر لنا نقاطا مضيئة؟! لماذا يطل التشاؤم من كلماتك؟! لماذا كل هذا السواد؟!
هل العيب هنا يكون في خطاب التحذير أم في غيبوبة التخدير والغفلة التي نردد معها كليشيه التفاؤل والتشاؤم، أو كليشيه الإيجابيات والسلبيات، أو كليشيه الألوان والأمزجة!!
وبالمناسبة فإنه طالما يحصل وعي، وطالما هناك نقاش صحي، وانتباه تدريجي، وتفكير ينبعث ليراجع ويصحح، وطالما هناك تغيير يحصل على مستوى إدراك العالم، والموقف من البشر والأشياء، والاعتقادات التي كانت ثابتة على الخطأ وبدأت تتزحزح، والأيقونات تتكسر، والأصنام تتداعي، وأعني بها مفاهيم بالية، وأساليب خرقاء، وثوابت متوهمة، وضلالات مستقرة، وأباطيل شائعة، إذا تحركت هذه المكونات من مكانها، ووجد القارئ والكاتب والمتكلم والمستمع عقله يعمل، وإذا وجدنا هذه الزائدة الدودية المعطلة المسماة بعقولنا تبدأ في السؤال والقلق والبحث، إذا حصل هذا فهو مكسب كبير، وخطوة جبارة، ومدعاة للتفاؤل لأنصار فريق البحث عن نقاط مضيئة، وإيجابيات للإشادة!!
لكنه هنا تفاؤل من نوع غير مألوف لأنه سيكون هنا مبنيا على معطيات عقلية وواقعية لا مجرد شعور وجداني يقع في النفس والقلوب فتفرح وتتفاءل، ثم لا تلبث أن تتلقى هذه الصفعة أو تلك من هذا أو ذلك فتهبط في هاوية "التشاؤم"، وتزحف جائعة مفتقدة لجرعة تفاؤل جديدة كما يفعل المدمن البائس!!
أكاد أصدق ما قاله لي ذلك الطبيب العراقي واصفا المصريين بعد احتكاك وإقامة سنوات بينهم!! ولا أستطيع تبرئة أو اتهام بقية العرب!!
قال: المصريون يا دكتور ـولا تؤاخذني ـ لا يحبون من يدفعهم للتفكير أو المراجعة أو النقد أو تشغيل أمخاخهم في تحليل أو تمحيص فهذا عندهم وجع رأس، وربما تضييع وقت!!
إنما يعشقون من يريح نفوسهم بلطائف وحكايات ونوادر وكلام يحرك المشاعر دون أن يزعج العقول!!! هكذا همس لي، وأنا أذكر كلام أستاذي: لا قيمة لفكر أو مفكر عندنا!!(طظ كبيرة، وشتائم أقسى) لا قيمة ولا اعتبار عندنا للفكر كما نعتبر ونحترم ونحتفي بالسلطة أو الثروة أو المصلحة. ومن النطاعة الشائعة، والتناحة الذائعة لدينا أنك بعد أن تجهد نفسك في إنتاج فكر، أو تبسيط خبرة، أو تركيب وصف أو تحليل وتشخيص ونقد تجد من السامعين أغلبية تتمطي كسلى، نصف نائمة، ومغتاظة منك لأنك أزعجت عقولها التي كانت نائمة، وتريد أن تلعنك لأنك أيقظتها بعد طول سبات، تجد من يتمطى ويقول لك: طيب، وما الحل؟!
وهذا السؤال الساحق الماحق المحبط النطع يحمل معاني سلبية جدا ـلمن يهتم بالسلبيات والتشاؤم والنقاط المضيئة والألوان المبهجة!!ـ هذا سؤال يعني أن جهدك الذي بذلت في التحليل والمراجعة، والتفكيك والتركيب، والنقد والتشخيص كان بلا قيمة، أو بلا وزن ولا معنى ولا تأثير ولا توابع تقريبا أو كلية وكأن السامع أو القارئ يتوقع أو يعرف ما قلته أنت سلفا، وأنك لم تضف جديدا لمعارفه الواسعة العميقة!!!
والمعنى الآخر أن الباشا القارئ المتفرج يريد أن يستكمل الليلة على نفس الوضع: الكاتب يعتصر أفكاره ومشاعره وخبراته، والقارئ يطرقع أصابعه، ويمتطى ويتثاءب، ويقول لك بهدوء: أضعت وقتي، وأصبتني بالملل، والإحباط والنكد!!
معندكش نكتة ولا حدوتة ولا أغنية، ولا تفاؤل ولا أخبار مفرحة كده لزوم فرفشة القعدة، وعشان الليلة تحلو وتزهزه بدل اللون الغامق ده، معندكش بمبي مسخسخ؟!!
وكأن الكاتب ممثل في مسرح أو فقرة في سيرك، أو عرض راقص لفتيات يرتدين السواد بدلا من خلع الملابس والأغطية، وهز البطون!! مساكين يا معشر القراء!!
من أجل ذلك أحطم هذه اللعبة أيضا، ومعذرة للباحثين عن البهجة وسط ما أكتب!!
أحطم هذه اللعبة يا سادة، فلا أنا خبير ولا ممثل ولا أكثر منكم حرصا ولا عيا ولا إخلاصا ولا حرقة ولا أحمل غير ما أسطره لكم من معاني، وكلكم يصلح نجما ـإن شاءـ وكلكم جزء من المشكلة، وجزء من الحل، وكلكم مبدع ومفكر وصاحب رؤية إلا من أبى تشغيل عقله، أو تحريك ذهنه، أو ممارسة مسئولياته وأمانة تكليف الله له بحمل الأمانة.... انتهى العرض.....سلام.
واقرأ أيضًا
على باب الله: زمن الرفيق الأليكتروني/ على باب الله: البحث عن عباس