دخلتْ عليّ رقيقة باسمة، حسب تعلميات آليات السوق، باعتبار أن "السوق هو الحل"، أي والله!! قالت لي بتلقائية ميكانيكية (باسمة!!)، "أشكرك على تشجيعنا يا دكتور". رددت عليها بكل قلة "سوق" (قلة ذوق، أو حتى قلة أدب) قلت لها "أنا لا أستحق شكرك يا بنتي، وأرفض شكر شركتك، لأني لم ولن أشجعك، أنا أكتب العقاقير لأقدم لمرضاي فرص الشفاء، لا لأشجع شركتك، مهما كانت عالمية أو مشهورة!. بلعتها البنية وانتقلت إلى نقطة أخرى: ذكرتْ أنها علمت أني كتبت عقاراً آخر من إنتاج شركتها هذا الشهر عدة مرات، تمالكت نفسي، وكظمت غيظي، وسألتها من أين علمت ذلك؟
أجابت بسذاجة بادية "من الصيدليات المجاورة"، قلت وأنا أنفخ "من علّمك أن هذا التجسس هو حق لك أو لشركتك؟ وبأي حق يذيع الصيدلي أسرار ما يصله من وصفات مني أو من غيري؟! لم تفهم، أشفقت عليها، لكني أخبرتها أنني لا أستحق الشكر حتى على ذلك لأني توقفت عن كتابة هذا العقار بعد أن ثبت لي أنه أخيب وأخطر.
في زيارة أخرى طلب مني شاب آخر (طبيب يا حبة عيني!) يقوم بنفس المهمة أن أجرب عقار شركته، فقلت له: ربما أفعل إذا احتجت ذلك، سألني متى يكون ذلك، قلت: "إذا ما فشلت العقاقير التقليدية التي أستعملها منذ حوالي خمسين عاماً أن توصلني ومرضاي إلى ما نريد"، راح يعدد الآثار الجانبية لتلك العقاقير الرخيصة الأقدم، قلت له: "هل اشتكى لك أحد مرضاي"، قال: "لا"، قلت له: "ولا هم اشتكوا لي أنا أيضاً"، ثم أضفت: "إن من أخبروك بهذه الأعراض الجانبية، لم يروا مريضاً واحداًَ بأنفسهم، هم علماء المكاتب والمعامل والجداول، وليسوا أطباء الممارسة وفن المدواة والمواساة. إن كل همهم هو أن يحلوا الأدوية الجديدة التي ثمنها أضعاف أضعاف ثمن القديمة، ثم بمرور الزمن يثبت أن للجديدة أخطار أكبر، وفاعلية أقل". دهش الشاب كما دهشت زميلته من قبل. أضفت:" إن الحل الذي سوف تلجأ له شركتك يا بني –بإذن آليات السوق– هو أن ترشوا الجهات المسؤولة، أو الشركات الأقدم، حتى يوقفوا إنتاج الأدوية الأرخص والأفضل فاعلية. ولا عـزاء للمرضى والفقراء!".
هذا ما يجري فعلاً، المصيبة الكبرى هو أنني من خلال مثل هذه الحوارات، والأحوال، وواقع الحال: أتصور أن مثل ذلك يجري في كل مجالات الاقتصاد والسياسة وربما التعليم، حتى الحروب، مما قد أعود إليه في ركن التعتعة السياسية في الوقت المناسب.
نشرت في الدستور بتاريخ 27-7-2005
اقرأ أيضا:
تعتعة نفسية: العادية / تعتعة نفسية: البحث عن الذات أم إثباتها أم تشكيلها؟ / تعتعة نفسية: المجنون لا يفعل مثل هذا!!!